العاشق المُغَنّي

1ـ العاشق المُغَنّي
يا فاطِمة سأقصُّ عليكِ بعضَ ما شُبِّهَ لي
وكنتُ أهيمُ كالمَجنونِ في صحراءِ عُمُرِي
أتأبّطُ ، بيَدٍ ، رَبابَتي المُغنّية وبالأخرى قِطعَة قِماشٍ مَشدودٍ
خَربشتُ عليها خُطوطاً خِلتُها مَلامِحَ وَجهِ مَن أحب .
وكنتُ هدّني الحَنينُ للبرقوقِ البرّيِّ الطالِعِ في حواكيرَ سَمَخ
فبِتُّ مِثلَ شَمعَة تتقاذَفُ ذبالتها كفُّ ريح ،
استوقفني يومَها وَجهٌ عَرفتُ فيهِ مَلامِحَ أبي
قالَ : يا وَلدي ! لن يَضِلَّ
مَن يُحسِنُ الجَمْعَ بين عِشقين !
وكانَ يُدرِكُ سِرّي أنّي مُوَزَّعُ
العِشقِ بينَ فاطِمة وفاطِمة
وحينَ استدرْتُ لأُجيبَه مُطَمْئِنا اختفى كما لم يكن .
فبتُّ مِن يومِها كذلِك العاشِقِ المُغنّي
أداوِمُ الوقوفَ قُبالةَ شُرفَةِ مَن أحِبُّ
أبادِلُها الحَنينَ والغِناء .
2ـ " قِبْلَتي "
يا فاطِمَة سأقصُّ عَليكِ بعضَ ما شُبِّهَ لي
وكُنتُ أحلُمُ بالعودةِ راقِصاً إلى الرَّمْلِ الطينيِّ
المُغتسِلِ بذوبِ ماءِ بَحْرَة الجَليل والمظلَّلِ بالعُنَّابِ البريِّ
وبأشجار نَخيلٍ يَتساقطُ ثمرُها رُطبًا جَنِيَّا ،
فوَجدْتُني في لا وَعيي أرْكُضُ حنْجَلَةً
يشدَّني عِشقي لفضائِكِ الأرضِيِّ وقد عُدْتُ
أَبْحَثُ عَمّا كان " قِبلتي "، عَنِ الرمل الطينيٍّ
عِنْدَ شَطِّ سَمَخ المغتسِلِ بدَمْعِ عُيونِ أمِّي
النَّازِفة دَمْعًا وَدَما شوقا للِطُرقاتِ المُتربة
ولناسِها .
3 يا فاطمة !
يا فاطمة سأقُصُّ عليكِ بَعْضَ ما شُبِّهَ لي
رَأيتُني ذاتَ يَوْمٍ مُحتمِيًا بجذعِ بَلوطةٍ مُعمّرَة
نزعوا عنها الأوراقَ ذاتَ لَيلٍ بَهيم
فَراحَت تُلملِمُ ما بَقِيَ مِن جُذورٍ مُعانِدَة هُبوبَ العاصِفَة .
وقد رُحتُ أحملُ بيدٍ قِنديلَ عَلاءِ الدين
لألوِّحَ لَك في العَتمَةِ ببَصيصِ نور
وبالأخرى عَصايَ التي باتَتْ بَعضَ ظِلّي لِتقيني شَرّ السقوط ! .
ومَرّ بي فَجأةً وعَلى عَجَلٍ صَوتٌ خِلتُهُ صَوت أمّي
كانَ يَقولُ:
تَمَسّك بحِكمَة أَبيك
" فمن سارَ على الدرب حذِرا ومُفكّرا حَتمًا وصَل " .
فَرُحتُ في صحوي
أتشبّثُ بجِذعِ البلوطة مُتكِئًا عَلى عَصايَ
مُحاذِرا الانزِلاقِ في زَمَن السُقوط
ومُلوّحًا بقنديلِ عَلاء الدين
علّ فيه بَصيصُ نور
لأُكحّلَ عَينيَّ بطلعتِك، فأرى طَريقَ عَوْدَتي .
4 ـ يا فاطِمَتي
يا فاطِمَتي سأقُصُّ عليكِ بَعْضَ ما شُبِّهَ لي
وقدْ وَجَدْتُني أعْتَمِرُ جُبَّةَ كاهِنٍ
أغالِبُ شوْكًا دامِيًا زَرَعوهُ غَدْرًا
وَسَطَ طَريقِ " إقْرِثِ " الوَعِرَة فاستَحالَتْ دَرْبَ آلام
وأحالوا بُيوتَها العامِرة كوْمَةَ حِجارَةٍ ناطِقَةٍ بِصَمْت
وَرُحْتُ أبْحَثُ عَنْ مَعْشوقَتي الأميرَةِ المَسْبِيَّة
في عُيونِ مَجْنونِ إقْرِث وقَدْ سَبَقَني إلى قُرْنَةٍ
صَغيرَةٍ في الكَنيسَةِ اليتيمَة
يُرَدِّدُ صلواتِ عشقِهِ لِحَسْناواتِ الجَليلِ
النائمات وسطَ غابَةِ شَوْكٍ موجِعٍ .
وَحينَ اطْمَأنَّ عقلي إذ رأيْتُهُ يَنْبِضُ حياةً وشوْقا ،
عُدْتُ لِأبتَرِدَ بِماءِ الحياةِ عِنْدَ " مَنْشِيَّةِ عَكّا "
باحِثًا عَنْ صَديقٍ راحَ يُقاوِمُ
في جَلَدِ عاشِقٍ قَسْوَةَ الزَّمَنِ الغادِر
مُقْتَفِيًا خُطى أبيهِ بَحْثًا عَنْهُ بعُيونٍ هَدَّها الحَنين
عَبْرَ شِقٍ في جِدارٍ باقٍ لجامِعٍ مَحْزون
يَطْلُعُ مِنْهُ خَيْطُ نور
وقَدْ أحاطوهُ بِسِياجِ إسْمِنْتٍ مُسَلَّح
لِيَحْجِبوا عن عيونِ صَديقي دَفْقَ نورِ الْحَياة .
5 ـ بَعْض ما شُبِّهَ لي
يا فاطمة سأقُصُّ عليكِ بَعْضَ ما شُبَّهَ لي ذاتَ نَهار
إذْ رُحْتُ أجالِسُ عَقْلي لِأحَدِّثَهُ في صمت المكلوم
عَنْ بَعْضِ ما ألَمَّ بِهِ مِنْ حماقاتِ حِياة
وَكُنْتُ حقيقَةً لا أدري أرُحْتُ لَحْظَتَها في سِنَةٍ
أمْ كُنْتُ مُتَيَقِّظَ الأحاسيس مِثْلَ عاشِقٍ وَلِهٍ .
رَأيْتُني وقَدِ استَحَلْتُ طائرَ عِسْعِسٍ صَغيرٍ مُلَوَنِ الرّيشات
عَهَدْتُهُ زَمَنًا طَويلا يَقْفِزُ فَرِحًا
بَيْنَ شَجَرِ السَّرْوِ شَديدِ الخُضْرَةِ وبَيْنَ شَجَرِ الرُّمّانِ
مُتَوَهِّجِ الاحْمِرارِ وكانَ يُحيطُ بِحاكورَتي .
رُحْتُ مُحَلِّقًا في عُنْفِ نسْرٍ ورِقَّتِهِ ، حينَ يُحِبُّ ،
تُحَرِّكُ جِنْحَيَّ ريحٌ غَرْبِيَّةٌ مُضَمَّخَةٌ مِثْلَ نَسائمَ حَياة
آتِيَةٌ مِنْ بَحْرِ عَكّا الذي طالَما أحْبَبْتُ رَمْلَهُ اللاهِب
وَتَدْفَعُني إلى الشرْق البَعيدِ القَريبِ
أكَحِّلُ عَيْنَيَّ ، لِوَهْلَةٍ ، بِزُرْقَةِ ماءِ الخَليج الغافي
في أحْضانِ كَرْمِلِيَ المُندَفِعِ بِشُموخٍ جَنوبًا وشرْقا
فَكانَ كُحْلُهُ بَعْضَ زادي وأنا في طريقي
لِأسْتَحِمَّ قليلًا بالخُضْرَةِ الآسرة لِوَعْرَةِ كفر عنان
المُسْتَحِمَّة بماءِ نَبْعَةِ فَرّاضية المَحْزونة
وأقَبِّلُ " خِلْسَةً " طَلْعَةَ الشَّمْسِ البَهِيَّة وَجَدائِلَها
الخَرّوبِيَّة المائِلَة قَليلًا سُمْرَةِ
حَبّاتِ قَمْح بَيْدَرِ أمّي الذي سرقوهُ عِنْوَةً
في وَضَحِ النَّهارِ لَحْظَةَ تَفَتُّحي على الحَياة
وَأضّيَّعُ في سوادِ عيْنَيْها الشَّبيهَتَيْن بِعَتْمَة
لَيْلٍ جَليلِيٍّ ساهِرٍ يُسامِرُ نُجومًا مُشْتَعِلَة
وَمَنْشورَةً فَوْقَ حِبالِ عِشْقٍ
مَشْدودَة فَوْقَ أسْطُحِ الجَليل .
وأغُذُّ بَعْدَها السَّيْرَ عائِدًا إلَيْكِ " مَعْشوقَتي "
مُتَجاوِزًا وادي عامود وقِمَّةَ جَبَلٍ
كانَ قَديمًا مَسْرَحَ آلِهةِ وَوَكْرَ عاشِقين
لِنَنْزِلَ يَدًا بِيَدٍ وفي عِناقِ مُؤلَّهيْن مُوَلَّهَيْن
نُبَلِّلُ قَدَمَيْنا وروحَنا بِرَذاذِ ماء البُحيرَة
وَنَنْفُضُ عَنْ كاهِلِنا المُتْعَبِ والمُنْحَني قليلًا
ثِقّلَ أحْزانِ حَنينٍ موجِعٍ عَشَّشَ طويلًا في عَيْنينا .
6 ـ
زَهرَةُ عَبّادِ الشمس
يا فاطِمَة سَأقُصُّ عليكِ بَعضَ ما شُبِّهَ لي
وكنتُ ،كعادَتي ، في أمسِ أرقب الصُفرَة المُبهِجَة
لِبَتلاتِ زَهرَةِ عبّادِ الشمسِ الطّالِعَةِ في حاكورتي
وقدِ انحَنت قليلاً في وَقارِ عاشِقٍ تستقبلُ وَهَجَ الشمْسِ
المُنزَلقةِ مثلَ دمعةٍ حارِقة
فوقَ خدِّ الأفّقِ الشرقيِّ لِجبالِ الجليلِ المُقدَّسَة
والنّازِلة ببطء
لِتغتسِلَ بماء خليج طهَّرَته آلِهَة وتكتسِبَ حياة
مِن طللِ المَعشوق .
***
وبَينما أنا في غفوَتي النَّهاريَّةِ الناعِسَة
أتأمَّلُ بتلاتِ زهرةِ عبَّادِ الشمسِ خُيِّلَ لي
أنني ازدَدتُ انحِناءً وعِشقًا لِشمسِك ، فاطِمة ،
هذي المندَفِعَة غربا مثلَ حِصانٍ سماوِيٍّ مُشتعلٍ ،
يذكِّرُني بحِصان هيليوس وقد راحَ محلِّقا
فوقَ وادي الكُروم لِيَبتردَ بِماء البَحر .
7 ـــ قَتَلوا بَطَّتي المُلَوَّنة*
يا فاطِمَة ! سَأقُصُّ عَلَيْكِ بَعْضَ ما شُبِّهَ لي
وَكُنْتُ في غفوَتي النَّهارِيَّةِ النّاعِسَة
حَضَرَني ، على حينِ بَغْتَةٍ وفي ليلَةِ حالِكَةِ السَّواد
لَمْ تَلْحَظْ مِنْ قَبْلُ وَمْضَةَ فرَح ، حَضَرَني
صَديقٌ قَديمٌ ، فَوَجَدَني مِنْ حَيْثُ أدري ولا أدري ،
أفيضُ فَرَحً مأمولًا وحُزْنًا مُعاشًا
فأشْرِكُهُ بِبَعْضِ حُزْني وأرَدِّدُ صارِخًا في وَجَعٍ :
يا صاحِبَ نورا !
بي حاجَةٌ لِأنْ أقُصَّ عَليْكَ بَعْضَ ما حَصَلَ وَكان
في ذلكَ اليَوْمِ شَديدِ العَتْمَةِ قَبْلَ سِتّينَ عامًا أو يَزيد
فَثَمَّةَ مَنْ يبْغي قَنْصَ الذّاكِرَة وقَنْصي
يَوْمَها عَرَفْتُ تَفَثُّحي على الحَياة ذاتَ نَهار
وَقَد رَأيْتُ بأمِّ عَيْنَيَّ الفَزِعَتَيْن ما كان .
رَأيْتُ صَيّادَ البَطِّ البَرّيِّ يَقِفُ حامِلًا
بُنْدُقِيَّتَهُ المَسْمومَة قُبالَةَ شَطِّ البُحَيْرَة
وكانَ يَتَرَصَّدُ ظُهورَ بَطَّتي المُلَوَّنة عِنْدَ الشُّروق
رماها بنارِهِ الحارِقَة فَأصابَ مَقْتَلَها ،
فهَوَتْ تَتَخَبَّطُ بِدَمِها إلى قاعِ البُحَيْرَة ،
أفْزَعَ فِراخَها وطالَني لكَثيرُ مِنْ سُمومِ نارِهِ .
أعْذُرْني إنْ كُنْتُ لا أزال أصرَخُ مَوجوعًا
فقد قتَلَ الصَّيّادُ بَطَّتي الملَوَّنة ويبْغي قَنْصَ الذّاكِرَة
وَهْيَ آخِرُ ما عِنْدي ، وقَنْصَ ما ومَنْ تَبَقّى !
8 ــ أعْذُريني
أعْذُريني يا فاطِمة ! إنْ ساوَرَكِ بَعْضُ الظَّنِّ ،
حينَ رأيْتِني ذاتَ يومٍ خِلافَ ما عهِدْتِني ،
فَشُبِّهَ لكِ أنّي أديرُ ظَهْري لِآلامِ النّاسِ
وأنْشَغِلُ بِعِشْقِكِ لِأهْرُبَ مِنْ واقِعِ عالَمِنا المُخيف !
أو شاهَدْتني إذْ رُحْتُ ألْهو قَفْزًا كَصِغارِ الجِداء
بَيْنَ الصُّخورِ المُغْتَسِلَة بِقَطراتِ المَطَرِ
فيما تبقّى مِنْ وَعْرِيَ الجليلي
وقدْ سرقوا أجْمَلَهُ وأكْثَرَهُ ،
إذ رُحْتُ ألَمْلِمُ بَتَلاتِ البرْقوقِ المُلَوَّنَة
مِثْلَ النورِ المُشِعِّ ألَقًا من عَيْنَيْكِ السَّوْداوَيْن
لأجَدِّلَ مِنْها ضُمَةَ وَرْدٍ أزَيِّنُ بِها شَعْرَكِ
الحاني عَلَيَّ كَشَلّالِ نور .
أعْذُريني ! فما جنونُ عِشْقي إلّا بَحْثًا
عَنْ كُلِّ ما هُوَ جَميلُ في جُنونِنا العاشق !
9ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تغريدُ الطائِر
المِمراح
يَأتيني في كُلِّ صُبحٍ صَوتك الغرِد المِمراحُ يا طائِري الجَميل
لحظَة تنشقُّ مَحارَةُ الليلِ شَديدة السَّواد عَن خيوطِ طلّةِ الفَجرالمُلوَّنة
فأشعُرُ أّنَّ دَفق خمرة الحَياة لا يَزال يَضجِّ في عُروقي
أنهَضُ نشِطا أستقبِلُ فَرِحا حَياتِي الجَديدَة
وأجِدُني في نزق العاشِق أرَدِّد بصَوت مَسموع : ألله يا فاطِمة .
10ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حّبَّة الإسكِدِنيا
تَلوحُ وَسَط وَهَج الشمسِ حَبَّةُ الإسكِدِنيا مُغرِيَةً ذهَبيَّةَ اللون
ناعِمَةَ المَلمَسِ وطيبة المَذاق في أعلى الشجَرَة شديدَة الخُضرَة .
تضعُف نفسي وتمتدُّ يدي إليها
لكنَّها في اللحظة الأخيرةِ تخذُلُني وتتراجَع
فأُبقي حَبَّةَ الإسكِدِنيا لِزَميلي وابن أًمِّي الطائرالغَرِدِ المِمراح
لِيَسعَدَ بمَذاقِها اللذيذ وأسعَدَ بزقزقاتِه المُبهِجَةِ .
11 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يُدْهِشُني
يُدهِشُني فيك يا طائري الجميل !
مِن أين تأتيك هذه القدرَة على الانتِصار عَلى الألم ومُعاوَدة الزقزقةِ المُبهِجَة ؟
يَسطو الغراب مُعتِم الريشات عَلى عُشِّك الوَديع ويَلتهِم صِغارَك ،
فيُصيبُك حُزن موجع ، لكنك تُعاوِدُ الزقزقة المُبهِجَة .
وتكونُ الأفعى على مَقرُبَة مِن عُشِّك ،
فتخلو ببَيضِك وتلتهِمُه بشرَه المُفترِس ،
فتبكي في وَجَع يُذكّرني بوَجَعي .
لكنك تنتصِر ثانِيَة على الألم
وتعودُ إلى الزقزقة المُبهجَة أملا بفرح تجدُّدِ حَياة .
12 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بَيْتُ الطين
واعَجَبي يا طائري الجميل !
مِنْ عَيْنَيَّ المُتْعَبَتَيْن كَيْفَ تُغالِبانِ تَعَبَ السُّنين
وَتَختَرِقان حُجُبَ الأبعادِ القَصِيَّة ،
لِتَحُطّا بوَلَهِ عاشِقٍ مَعْشوقٍ قُرْبَ بَيْتِ صَغير
كانَ عامِرًا لِسِنينَ طويلَةٍ بِفَرحِ الأطْفالِ السُّمْر
في قَرْيَةٍ مُخْتَبِئَةٍ مِنْ حَرِّ الغورِ الحارِق
بِقُصَفِ الرُّبّيض المُتَشابِكَة كَالحَياة
عِنْدَ ضَفَّةَ النَّهْرِ المَسْروقِ في عِزِّ الظَّهيرَة
وَبِرَذاذِ ماءِ البُحَيْرَةِ التي كانَتْ
نَبْعَةَ عِشْقِ مَليحاتِ القرية السَّمْراوات
قَبْلَ الرَّحيلِ القَسْري ،
وَلِتَطوفا في ورَعِ عابِدٍ
حَوْلَ ما تَبَقّى مِنْ رُكامٍ يُعانِدُ الرَّحيل
بَحْثًا عَنْ لَحْظَةِ قَيْلولَة في ظِلالِ حائِطٍ كان
تُعيدُ إلى ذاكِرَتي المُعَذَّبة بَيْتَ الطّينِ المَهْدوم .
13 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أعْجَبُ
أعْجَبُ ! يا طائري الغرِدَ الجَميل
كَيْفَ لا تَلْتَزِمَ الصَّمْتَ ، فَتَكُفَّ عَنِ الغناءِ الفرِحِ
وَكَيْف لا تَمْلأ فَمَكِ بالْحُزْنِ الناطِق ؟
ألَمْ يأتِكَ نَبَأ ما حَدَثَ وكان ؟ .
فقدْ داهَمَتِ العَتْمَةُ المُفْزِعَة بِعَباءَتِها كُلِّيَّة الظُّلْمَة
كُلَّ زاوِيَةٍ حالِمَةٍ بالنّورِ وَحافِلَةٍ بالضَّوْء
وواعِدَةٍ بِما هُوَ جَميلٌ في عالَمِنا
ألا يُفْزِعُكَ النَّحيبُ الأجَشُّ والموجِعُ
المَمْزوجُ بِدُموعِ طِفْلَةٍ راحَتْ تنْبِشُ بِوَجَعٍ
رَمْلَ الشاطِئِ المَفْجوع عِنْدَ بَحْرِ غَزَّةَ
بَحْثًا عَمّا كانَ قَبْلَ وَمْضَةِ عَيْن .
ألا تَرى يا مُنْشِدي
أنَّ هذا زَمَنٌ لا يَجْمُلُ فيهِ غِناء
وقَدْ تَدَثَّرَتِ الشَّمْسُ المُفِزَعَة
مِنْ هولِ ما رأتْ بِوِشاحِ أسود .
14ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحارُ
أحارُ فيكَ يا طائري الجَميل
أرْقُبُ مّسْلَكَكَ ، فأصابُ بِدَهْشَةٍ تَتَخَلَّلُني
تَرْكُنُ طَويلًا إلى الجُلوسِ فَوْقَ عودِ البَلّوط البَرّي
وتُدْرِكُ في سَليقَةٍ أكْسَبَتْكَ الحَياة
أنَّ غَدًا سَيأتي لا مَحالة
وتَعودُ للعودِ اليابِسِ خُضْرَةُ الرَّبيع .
يُغْريكَ لُسانُكَ العَطِشُ
إلى قَطْرَةِ ماءٍ فَتَبْحَثُ عَنْها في مَذاقِ
حَبّاتِ الإسْكِدِنْيا الذَّهَبِيَّة الرّاقِصَة في وَهَجِ الشَّمْس .
لكن يَظَلُّ يَشُدُّكَ الحَنينُ
إلى عودِ البَلّوطِ اليابِسِ فسَرْعانَ ما تَعودُ إليه
تَغْرِزُ ظِفْرَيْكَ فيهِ ، مُتَشَبِّثًا بِهِ ،
مُحاذِرًا السُّقوطَ في الزَّمَنِ الخَؤون
وتَعودُ إلى فَرَحِ الغِناءِ أمَلًا بعَوْدَةِ الرَّبيع .
15ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يا طائرَ القَفَصِ
ابْكِ يا طائِرِي الجَميل
فَثَمَّةَ مَنْ يقولُ وبينَ حِدْقَيْه تَلْمَعُ حَرْبَةُ قاتلة
إنَّ الطّائرَ الأخْضَرَ ما كان
وما كانَ في " جِنينِ " الثاكلة لَمْ يَكُنْ !
أعْذُرْني ! يا طائرَ القَفَصِ الحَديدي
حينَ أتأمَّلُ حَبْسي وَحَبْسَكَ المُقيم
كَمْ يوجِعُني أنّي أقِفُ عاجِزًا فلا أرُدُّ
عَنْ جناحَيْكَ وعَنّي غائِلَةَ هذا الزَّمن !
16ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انتِظار
( من وَحْيِ لوحَةٍ للفنّان التشكيلي ، صديقي عبد عابدي ، وكُنّا مَعًا
في سِتّينات القَرنِ الماضي نقيم هو في درسدن في جامعة الفنون
وأنا في برلين في جامعة الاقتصاد وقد أنجزَ هذه اللوحة الرائعة
في عام 1967 ، أهداني في عام 1968 ومازالتْ مُعَلَّقة إلى
اليوم في بيتي في كفرياسييف مثل أكثرمن 15 لوحة لأصدقاء
وصديقات ، فنانين وفنّانات )
ــ مَعَ طلة كلِّ فجرٍ وَمِنْ سِنين
أستهلُّ نهارِيَ الجَديد متأملا وُجوهَ نِسْوَة
تطِلُّ عَليَّ مِنْ قِماشِ اللوحة
وَهْيَ في حالةِ انتِظارٍ حالِم ،
فتذكرُني بوجهِ أمّي المَسْكونِ بحُزنٍ رَهيف
لا يخلو مِنْ فرَحٍ واعِد أنَّ المُنتظرَ الآتي
ذاتَ غدٍ قد يكونُ العائِدَ الجَميل
حامِلا بينَ يديْهِ السَّمْحَتين
سِلالَ خبزٍ ساخِنٍ وأشياءَ مُلوَّنةً كثيرة .
وفي خلفيَّةِ اللوْحَة تظهرُ بُيوتٌ مُتلاصِقة ومُقتطعَة
مِنْ حَجَرٍ كرمِلِيِّ الإيحاء وَمِنْ طُينٍ مُلوَّن ،
تبدو شاغِرَة تسْكنها قبْضةُ ريحٍ ،
نوافِذها وأبوابُها مُغلقة ، طالما أعادَتْ إلى ذاكِرتي
صُوَرَ البُيوتِ المَنهوبَة
وَما أصابَها ذاتَ رَبيعٍ داكِنِ السِّحْنة
ساعَة هَبَّتْ عليها ريحٌ سّموم .
يا صاحبي ذا الريشة المُلوَّنَة
كَم يُحزنُني أنَّ بُيوت وادي الصليب الكرمِلِيّة
أذكُرُها في طفولتي
كانَتْ يَومَها عابِقَةً بأنفاسِ أهلِها العاشقين
ومُنارَةً بِشَقْوَنَةِ صِغارِها كثيري الوَلْدَنة ،
يُحْزِنُني أيَّما حُزْن
أنَّ البيوتَ المُلَوَّنَة تلك لَمْ تَعُدْ قائِمَة ,
17ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أتأمَّلُ
لِلَحْظَةٍ ، أهرب من واقعي الحزين
فَيَحْمِلُني الخيالُ المُجَنَّحُ بَعيدًا
بينَ كَفَّيْهِ الوَديعَتيْن لِأتَأمَّلَ طويلًا الخُيولَ المُتَدافِعَة
" مِثلَ صَخْرٍ هَدَّهُ السّيْلُ من عَلِ "
فوقَ قِطْعَةِ قِماشٍ مَشْدودَةِ الأحاسيس
كعواطِفِ صَديقي جَمالِ المَسْكونِ بِعِشْقٍ جَميل
فَيُشَبَّهُ لي أنّي أغالِبُ عَجَزًا جَسَدِيًّا داهَمَني ذاتَ يَوْم
وأنْطَلِقُ كالْمُهورِ في نزقِ عاشِقٍ
أمْتَطي جَناحَ الغَيْمِ وأحَلِّقُ مُعانِقًا خَدَّ الأفُقِ الشرقي
فوقَ القِمَمِ الجَليلِيَّة المُقَدَّسَة حَيْثُ تغفو
مَنْ أحْبَبْتُها طيلَةَ عُمُري
وَأسْتَعيدُ لِلَحَظاتِ قِصارٍ سَعادَةَ الخُيولِ المُتَدافِعَة
فَوْقَ قِطْعَةِ القِماشِ مَشْدودَةِ الأحاسيس
تِلْكَ التي لَوَّنَتْها بِفَرَحٍ وعِشْقٍ ريشَةُ صَديقي جَمال .
18 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نِساء ملوَّنات
وفارِسُ حُلُم
أيَّةُ موسيقى إنْسانِيَّة الإيقاع تَتَخَلَّلُني
فَتَنْتَشي بِها أحاسيسي المَشْحونة انبِهارًا
وأنا أرْقُبُ بِعُيونٍ تَدْمعُ فَرَحًا
النِّساءَ الكَنْعانِيّات المُلَوَّنات
كَزيقِ فاطِمَة الأبهى مِنْ قَوْسِ قُزَح
وَقَدْ رُحْنَ في خَفَرِ عاشِقات
يُمارِسْنَ طُقوسَ عِشْقٍ خَفِي
فَوْقَ لَوْحَةِ قِماشٍ مَشْدود
أكسبتْها ريشَةُ صَديقي أحمَد
حَرارَةَ الْلَوْنِ النّاطِقِ زَهْوًا
وَيَحْمِلْنَ قِفافَ نورِ وَتُفّاحًا عَبِقا
وَهُنَّ يَبْحَثْنَ بِعُيونٍ عاشِقَةٍ
عَنْ فارِسِ حُلُمٍ يَمْتَطي بُطونَ خيلٍ
حَديدية وخَشَبِيَّة
مَرْئِيَّة وغَيْر مَرئِيَّة
وهو مِنْ نَسْجِ ذِهْنِهُنَّ
وتَفْصِلُ بَيْنَهُ وبَيْنَهُنَّ
سُتورٌ رَهيفَةٌ ومسحورة .
19 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من وحي أعمال للفنانة التشكيلية رانية عقل ، وموضوعها طائر السنونو .
يا طائِر السُنونو
يا طائِرَ السُّنونو، أسوَد الريشات ،
كم تُدهِشُني حَرَكتُك الرَّاقِصَة في صَحن الأفُق ،
تهبط مِن عَلٍ مِثل شهاب ، راح يَرفُل بالسَّواد ،
وباندِفاعَةٍ حادَة الزاوِيَة لِتُلامِس وَجه الأرض،
تستمِدَّ مِنها قوةً وَحَياة فَتُعاوِدُ التحليق مِن جَديد .
لكم ذكّرْتني بسربِ سُّنونو
كانَ يَهبطُ مِن عَلٍ وَسَطَ عِناقٍ مُزقزِق
لِيلِجَ عَبرَ النافِذة المُشرَعَة
إلى بَيتِ جدّي ، عِندَ حافَة البُحَيرِة ،
ويَروحَ يَستريح قليلا في أعشاشِه الدافِئة
لَيُعاوِدَ التحليقَ مِن جَديد .
كم أغبطُكَ
فلا زِلتَ تنعَمُ بِما حُرِمتُ مِنهُ
وكم أوَدُّ لو أنني " أُشارِكُ سِربَ السنونو
دَ ربَ عَودَتِه " لأبنِي مِن جَديدٍ عُشَّ سُنونو
هُناكَ عِندَ حافّة البُحَيرَة
وأعفُرُ وَجهِيَ الشائِخ برَذاذِ مائِها .
20 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أيَّة خُطىً ؟
( من وحي منحونةٍ صَخْرِيَّةٍ للفنان النَّخّات سلمان مُلّا من يَرْكا )
أيَّةُ خُطىُ " هذي المُنْغَرِزَة عَميقًا
في الصَّخْرِ الجَليلِيِّ الصَّلْب
وقَدْ رَسَمَها إزميلُ صَديقي سَلْمان
وكانَ يُحاوِرُ بِخَيالِهِ المُجَنَّحِ
حِجارَةَ الطَّبيعَةِ الصَّماء
لِتَسْتَحيلَ بَيْنَ يَدَيْهِ المُبْدِعَتَيْن
مَنْحوتاتٍ باقِيَةً وناطِقَة .
أهْيَ خُطى أمّي ؟
وقَدْ راحَتْ تَخْطُرُ
حافِيَةً في هَوَسِ عاشق
فوْقَ حَبّاتِ الرَّمْلِ اللّاهِبِ
لِشَطِّ الْبُحَيْرَة
لِتَبوحَ لِمَوْجاتِهِ المُتَدافِعَةِ بِكَسَل
أسْرارَ عِشْقٍ لا يَعْرَفُ المَلَل !
أمْ هِيَ خُطايَ أنا ؟
وَقَدْ ارتَدَّ بِيَ الزَّمَنُ
إلى ما قبلَ الشَّيْخوخَة
لِأنْهَبَ دَرْبَ العودَة المؤِمَّل
للِقاءِ فاطِمة النّاطِرَة
عِنْدَ الشَّطِّ ، فَننزَلُ مَعًا
وبِيَدَيْنِ مُتَشابِكَتَيْن بِعِناقٍ حار
لِنُطْفِئَ بِمائِها حَرَّ شَوْقِنا
وأهْمِسَ في أذُنَيْها
نَشيدًا طالَما رَدَّدَهُ نَبْضُ دَمي
يا وَطَني ما أجْمَلَكَ
وإنْ سَرَقوكَ مِنّي
21 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذاكِرَةُ الألَم
( قَصيدَتا ذاكِرَةُ الألم و يا قاربي من وحي أعمال فَنِّيَّة أهدانيها
الفنان التشكيلي زِئيف كريشر )
أيُّ شُعورٍ مّفْعَمِ بالدَّهْشَة القلقة يَتَسَلَّلُ مُنْدَفِعًا
إلى عَتَمةِ أحاسيسي الْمُتَوَتَّرَة دَوْمًا
وأنا أتَأمَّلُ صَديقي كريشر
يُبْحِرُ في سفينَتِهِ المُقْتَطَعَة مشنْ جُذوعِ شَجَرٍ غشيم
والأشْبَهَ بِمِهادِ حَياةٍ هارِبَة
بَحْثًا عَنْ ذاكِرَةِ الألَمِ الإنْساني ، فأراهُ مُنْتَصِبًا
عِنْدَ مُقَدَّمَةِ سفينَتِهِ الخَشَبِيَّةِ المُبْحرَة
يُحَدِّقُ ف المَجْهول وأراني على حينِ بَغْتَةٍ
أعودُ في ذاكِرَتي المُمَزَّقة مُعْتَلِيًا سفينتي الوَرَقِيَّة
بَحْثًا عن طُفولَةٍ مَسْروقَة
أنظُرُ إلى البعيدِ عَلّي أرى ضِفاف شَطِّ البُحيرة
فَألْمَحُ وَجْهَ فاطِمَة عِنْدَ سمخ الْمَحْزونة
وقد افتَقَدْتُهُ مِنْ سِتّينَ عامًا أوْ يَزيد
ولا زِلْتُ أبْحَثُ عَنْ سَفينةٍ
هِيَ أشبه بِمِهادِ حياة
وَعَنْ مُشْتَرَكٍ إنْسانِيٍّ يُبْعِدُ عَنّا ذاكِرَةَ الألم .
22 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يا قارِبي
يا قارِبي الْقَديمَ المُقْتَطَعَ
مِنْ جُذوعِ شَجَرَةِ الحَياة
يَحارُ فيكَ عقلي وأنا أتأمَّلُ
إزميلَ صَديقي النَّحّات كريشر
وَقَدْ أبْدَعَ الشيءَ ونَفْيَهُ
فَتَرَكَني في حيرَةٍ مِنْ أمْري
وقَدْ رأيْتُ فيكَ ما لا يُرى :
مَهْدَ وِلادَةٍ مُقَمَّطًا بِزُنّارِ نور
وَقَدِ استَحالَ في غَفْلَةٍ مِنْ عَقْلي
لَحْدًا تَمْلأهُ العَتْمَة وأشْباحُ ديدانٍ
نهمَةِ تَوّاقَةٍ لِبَعْضٍ منّي .
يا قارِبي !
لا أخْفيكَ حُلْمي فكمْ تَمَنَّيْتُ
لَوْ أنْ أصيرَ بَصَّةَ نارٍ
فَأشْتَعِلُ في لَحْظَةِ فَرَح
وأغْسِلُ بِحَرِّ ناري كُلَّ ما عَلِقَ
بعالَمِنا مِنْ أدْرانِ حياة
وأجلو بدمي كُلَّ ذاكِرَةِ ألَمٍ ،
فلا يعْرف إنسانُنا بَعْدَها مِسْحَةَ حُزْن .
23 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يا طائري
يا طائري الزائرَ مثلَ حُلُمٍ
يأتيني فَجْرًا ويجِدُ مَعشوقَتَه نائمة
أتَصَوَّرُكَ جالِسًا مُغَرِّدًا تُطيلُ الوُقوفَ
قُبالَةَ مَعْبَدِكَ المَنْحوت ِ مِنْ صَخْرِ
اقْتَطَعَهُ صَديقٌ مِنْ وادي كُروم
يَهْبِطُ من وادي " عين زتون " عِنْدَ صَفَدِ الكَنْعانِيَّة
لِيَرْتاحَ قَليلًا عِنْد مَرْجِ " رامة " المورِق
حَيْثُ يَنْطَلِقُ نَبْعُ حَياة بِدَلالِ عاشِقٍ وَمَعْشوق
وَسَطَ كُرومِ الأميراتِ الحالِماتِ بِغَدٍ أجْمل .
أجْلِسُ طويلًا كالعاشِقِ قُبالَةَ مَنْ يُحِب
فأراكَ في مُخَيَّلَتي تَطْلُعُ مُحَلِّقًا وَمُنْطَلِقًا
مِنْ عُشِّكَ الصَّخْري لِتَرْعى انبِثاقَ وِلادَةٍ جديدة
فأسْمَعُك غَرِدًا كما الحَياة .
يا طائري ما أجْمَلَكَ وكَمْ أتَخَيَّلُكَ
ترْقِدُ في حِرْصِ أمٍ وحَنانِ أبٍ عاشِقٍ
تَرْقِدُ تَحْتَ شَجَرَةِ " دوم " استَحالَتْ
في غَفْلَةِ زمَنٍ غابَةَ شَوْكٍ يُنْسَجُ مِنْه
صَليبَ أحزاني ،
أتَخَيَّلُك مِثْلي تَتَوَقَّعُ انبِثاق وِلادةٍ
جَديدَةٍ وَضاءةِ في ساعة عَتْمَة .
يا طائري ما أجْمَلَكَ
أراكَ في حُلُمي النَّهاري مُنْفَلِتًا مِنْ أسْرِكَ
فَأزهو بِكَ طَويلًا وأروحُ أصغي بِهَوَسِ
مَعْشوقٍ عاشِقٍ إلى لَحْنِكَ السِّحْري الطّالِعِ
كالبُشْرى ساعَةَ الوِلادة
فأرْقِدُ ناعِسًا تُهَدْهِدُني نَغْنَغَتُكَ الغَرِدَة .
24 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ أيِّ مَنْجَم
( مِنْ وخْيِ أعمالٍ فنِّيَّةٍ للفنان التشكيلي السورِيِّ المُقيم في ألمانيا مَروان )
من أيّ منجم إنسانيّ عميق الغور
اقتطع هذا الفحم البنيّ المائل الى السواد قليلا
وقد بات وجوها متعدّدة الملامح والخطوط المسحورة
تطلّ عليّ وأنا في وحدتي الغامرة
من اللوحات الناطقة حياة وجمالا
هذي التي طالما ذكّرتني بالوجوه السمراء
التي استوحاها الفنان الرائع مروان الدمشقي
من حواري وطرقات دمشق العتيقة والمتربة كما الحياة
ففرحت في حزني حين أيقنت
أيّ منجم جميل الفحم والرؤى هو عالمنا الصغير
هذا الذي يقلقني حاضره .
وسألت نفسي محزونا أيّة شجون وأحاسيس إنسانية دفينة
تختفي خلف هذه الوجوه
التي أبدعها إنسان خالق .
وشعرت لحظتها أنها تخرج من لوحاتها
لتقول لي هامسة وبلطفٍ لم أعهدْ هُ
أنظُرْ في مرآة حياتك الطويلة القصيرة
علّك تجد ملامحي فيك فوجدت ملامح وجهي
وقد تشكّلت مشوّشة الخطوط فوق قماش اللوحة.
25 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أزهارُ الوَعْرِ البَرّي
( مِن وَحْيِ أعمال فَنّانة مِن قريَةٍ جَليلِيَّة )
كُنْتُ في أمْسِ كما شُبِّهَ لي
أتَجَوَّلُ هائِمًا بَيْنَ أزهارٍ بَرِّيَّة
تَتَشَكَّلُ فَوْقَ اللَوْحَةِ بِبَساطَةٍ آسِرَةٍ
هِيَ مَزيجٌ ناطِقٌ بِجَمالِيَّاتِهِ
مِنَ اللَوْنِ والخُطوطِ المَداريَّةِ
لِأقمارٍ مُشْتَعِلَة تَسْبَحُ في حَوْضٍ
لَيْلِيٍّ شَديدِ السَّواد يَكْشِفُ كَمْ هُوَ
جَميلٌ وَطَني وإنْ سَرَقوه .
كُنْتُ ، مِثْلَ مُسِنٍّ عاشِقٍ مُوَزَّعَ
الأحاسيس تَمْلئُني دَهْشَةٌ مُحَّيِّرَةٌ ،
أوَدُّ لَوْ أمْسِكُ مَعْشوقَتي الأميرة
النائمة بَيْنَ الأزهارِ الشوْكِيَّة
وأتْرِكُ لِحَواسي
فُرْصَةَ تَنَشُّقِ عَبَقِها المُسْكِر
لِأروحَ في ولهِ طِفْلٍ أنقُلُ
ناظِرَيَّ بَينَ أزهارِ الخُرْفيش البرّي
تَعَرَّتْ لِتَوِّها بِشَبَقِ امرأةٍ عاشِقَة
فَنَثَرَتْ أوراقَها في كُلِّ مَهَب
وَبَيْنَ وُرودِ سُمِّ الحَياة
الأشْبَه بِأقمارٍ مُشْتَعِلَةٍ
مُوَزَّعَةٍ بِفَوْضى مُحَبَّبَة
في وَعْرِ ما كان جليلي
وَتُحاوِلُ الإفلاتَ مِنْ
مَداراتِها المُعَلَّقَة مِثْلَ نُجوم
كَشَفَتْ خَلْفِيَّتُها السوداء
كَمْ هُوَ ساحِرٌ فَيْءُ عَيْنَيْ حَبيبي !
26 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أيَّةُ أحاسيس ؟
( من وحي منحوتة " ثليجة " الصخرية للفنّان النحات الرسام حاتم عويضة )
أيَّةُ أحاسيسَ مُتفجّرَةٍ وَمَشحونةٍ دَهشة وَانبهارًا
هذي الَّتي امتلكتني وَأنا أتجَوَّلُ نِصفً راقِصٍ
أدُبُّ عَلى عَصًا استحالتْ مكنسة أسطورية
تنقلني بخفة مسحورة بين الحجارة الصخرية
الجليلية المُلوَّنة والمُختلِفة الأصول ،
تلك التي أحالها ازميل نحاتنا الساجوري حاتم عويضة
الى مغناة ناطقة ومغردة ، فأسرتني بغنائها الشجي .
سألت نفسي وأنا أتأمّل مبهورا المنحوتة الجميلة
ل"ثليجة " المستوحاة من أسطورة الأخوين غريم ،
وقد رأيتها تتوسط واقفة في سفينة تبحر في بحر بلا ماء
متكئة على قطعة حجر
أشبه بقيثارة مغنية
تاركة لخصلة
من شعرها الجميل
حريّة الرقص في فضاء تمنحه
الشرفة المطلّة على عوالم من أقمار وشموس
وقد راحت تناجي طائرها الجميل
الذي استراح بين يديها ،
سألت نفسي
من ترى يمنح الآخر الدف ء
ثليجة أم القيثارة ؟ .
( قصائد مَجْموعَتي الشِّعْرِيَّة الخامسة " يا فاطمة سأقصُّ عليكِ " صدَرَت المَجْموعة في شباط 2009 وسأعيدُ إصدارَها من جديد )