" قِصَّتي هِيَ من وحي حكاية مغربية شمال افريقية ، حكتها لي أمي وأنا طفل ، هِيَ في الأصل

أسطورة قديمة ، شبيهة بأساطير مختلفة في عالمنا تشوه صورة المرأة بعد هيمنة المجتمع

الذُكوري عليها واعتبارها جِنِيَةً أو غولة " .

 

 

حدّثتني أمّي ، قالتْ :

خرج سردوك مرّة إلى الصيد، ومعهُ أترابُهُ، فكان أميرًا وابنَ أمِّهِ .

وَكانَ مِنْ أشجَع فِتيانِ الْعُروشِ في بِلادِهِ . صعدَ تلاًّ وهبطَ وادِيًا، لكنه

في ذلِكَ النَّهارِ لم يظفر بصيدٍ ،كأنَّ الأرضَ أقفرت ، انشقَّت ، فبلعَتْ ما

كانَ فيها منْ طيْرٍ وحَيَوانٍ .

لمْ يَدْرِ سَرْدوك كيف افتقد أصحابَهُ وبقِيَ وحيدًا في أرْضٍ ، يقعُ في طرفِها

غابةٌ كثيفة الشجرِ .

لمح غزالة، لم ير لجمالها مثيلا .

رآها تقفز أمامَهُ ، فمَدّ  يَدَهُ إلى قوْسِ نَشّابهِ، أرادَ أن يَرْميها، فلمْ تُطاوِعْهُ يَدُهُ وَجَمَدَتْ في مَكانِها ، دفعَ حِصانَهُ ، حاولَ أن يَلْحَقَ بِها وَأنْ يَصْطادَها بيده.

راحَ يتتبَّعُ قفزاتِها وقادته  عميقا  وسط  الغابة .أجْهَدَهُ التعَبُ ونالَ مِنْهُ العَطَشُ ، فلم يَعُدْ يَرى الغزالة ،  فتخلّى عَن فِكْرَةِ الإمْساكِ بِها .

وفي طريقِ عَوْدَتِهِ تذكّرَ أحاديثَ عَجائزَ بلدتهِ عن نبعِ  ماءٍ مَسْحورٍ في وَسَطِ الغابَةِ . خافَ قلبُهُ ، خافَ قليلاً ، ولكنْ أجْهَدَهُ العَطَشُ ، هُوَ وحِصانُهُ ، فاندفعَ  يَطلُبُ الماء .

كانَ النَّبعُ ، الذي قصَدَ الوُصولَ إليْهِ لِيشْرَبَ ، كانَ  طلَعَ مِنْ بطنِ الأرْضِ

عميقًا وَسطَ الغابةِ وقُرْبَهُ كانتْ  تسْكُنُ امرَأةٌ عَجوزٌ ساحِرَة ،ومَعَها ابنُها، تلهو  بالطينِ المَعْجونِ بماءِ النبعِ وتُشيّدُ منهُ بيوتًا صَغيرَة ، هِيَ أقرب إلى لُعَبِ الأطفال

وترْقُصُ في فرَحٍ حَوْلَ مَوْقِدِ نار .

نَسِيَ سردوك أمْرَ النبْعِ المَسْحور ، فاندفع ، مَأخوذًا بِعَطَشِهِ ، يَرِدُ النبع ، فكادَ

يُهَشّمُ بِرِجْليْ حِصانِهِ ما شيّدتهُ العَجوزُ السّاحِرَة مِنْ بُيوت .

صاحت :

وَيْحَكَ  سَرْدوك ،حَطّمْتَ ما  شيّدْتُ .

ما الذي دَهاكَ ، هَلْ تحْسَبُ نفسَكَ فُزْتَ بِقلْبِ  نولجا .

تراجَعَ سَرْدوك ، شاهِرًا سَيْفَهُ ، يَسْألُ العجوزَ الساحرة :

نولجا من تكون ؟

تظاهَرَت العجوزُ بالرَّفضِ والتَّمَنّعِ، فلمْ تُخْبِرْهُ :

نولجا منْ تكون ، وما سِرُّ جَمالِها،

فزادَتْهُ تشوّقًا وَرَغْبَةً في  مَعْرِفَةِ أمْرِها .

أقسَمَ أنَّهُ سَيقتلُها ، إنْ لم تُطْلِعْهُ :

مَنْ هِيَ ؟

وأيْنَ تُقيم .

قال :

يا " سَتّوتْ ، إمِّ البْهوت والبْخوت "

أمامَكِ خَياران،

فإما أنْ افوزَ بقلبِ نولجا،

اوْ أنْ أخْرِجَ قلبَكِ مِنْ أحْشائِكِ بِحَدِّ السَّيْفِ وضَرَبَ بِهِ شَجَرَةً سامِقَةً، فقطَعَها نِصْفَيْن .

قالت ستوت، المَرْأةُ العَجوز :

اسْمَعْ يا وَلدي،

وتظاهَرَتْ أنَّ الخوْفَ مِنْ سَيْفِهِ يَعْقِدُ لِسانَها ، بَيْنَكَ وبينَ نولجا سبعةُ بُحورٍ وسبعَةُ مُهور .

نولْجا، قالَتْ، أجمل نِساءِ الأرْض، تطلعُ الشمسُ منْ بين أصابعِها ويُشرِقُ القمَرُ  من بين عُيونِها ومن ريقِها يَفيضُ عَسَلُ الجَنّةِ ومن نَفْحِ طيبِها تعبقُ الرِّياضُ، ولن يفوزَ بها ، إلاّ من ركبَ في سبيلِها ولأجلِها أخطَرَ الأهْوالِ وعَرَفَ كَيْفَ يُذلّل المَصاعِبَ والعقباتِ، إنْ فُزتَ بِها ، أنْسَتْكَ الحورَ العين .

سأدلُّكَ، كَيْفَ تصِلُ إليْها ،  شريطةَ أنْ تسْمَعَ نَصيحَتي .

قالت :

سيعترض طريقك غولٌ وعقبان وسيلُ ماءٍ جارفٍ وغابة .

أمّا الغول فلا تخَفْ من حَديثِهِ وناوِلْهُ سَبْعَةَ الأرْغِفة، كي ينشَغِلَ بها عَنكَ، وإلاّ سَيَلتهِمُكَ عَظمًا ولَحْما ولن يُبقي منكَ أثرًا أوْ خَبَرا.

وحينَ تجتازَ وادِيًا عَميقًا، تُحيطُهُ جِبالٌ خالِيَةٌ من زَرْعٍ ، شَجَرٍ وإنسان ، سَتعْترِضُ طَريقكَ طُيورٌ بَيْضاء، سَبْعَةٌ ، هِيَ عُقبان، مَزِّقْها  بِسَيْفِكَ، لا تخَفْ واحْذرْ عِروضَ فتاةٍ مُغْرِيَة ستظهَرُ لكَ فَجْأةً من ريشِ العُقبان .

ارفُضْ بكُلِّ إباءٍ، إنْ راوَدَتْكَ عن نفسِها، فهيَ ابنتي العاقَّةُ العاصِيَة، وأنا أدرى بِحَبائِلِها المُغرِيَة.

سَيقودَكَ طَريقكَ إلى حَوْضِ وادٍ، جَمالُهِ الوارِفِ وظِلالِهِ الغنَّاء اشبه برِياضِ الجَنَّة المَوْعودَة، فيهِ سَيْلُ ماء، لا تقرَبْهُ، وإن أنهَكَكَ العَطَشُ وهدّكَ  التَّعَبُ ،فلا يفوزُ في مِثلِ هذهِ الحالَةِ إلاّ مَنْ عرفَ تَعبًا وصَبَر. سَيَكونُ الَّسيْلُ جارِفًا،  فابْقَ بَعيدًا عَنْهُ سَبعَةَ أيّامٍ ولا تقرَبْ ماءَهُ. وفي اليَوْمِ السابِعِ سيغورُ ماءُهُ قليلًا ،  فاسْتعْجِل العُبورَ وكُنْ في عَجَلَةٍ مِنْ أمْرِكَ. ولا تستوقفْكَ أزهارُ الوادي ولا طيّباتُهُ .  وستمْضي في طَريقِكَ إلى غابَةٍ ، أشجارُها جِنّيات .

ستحاوِلُ الغابَةُ إيقافَكَ ، فلا تعْبَأ بِها ولا تعِرْها اهتِمامًا. وإذا خلُصْتَ مِنْها ومنْ أصابِعِها السِّحْرِيَّةِ المُغْرِيَة .

قالت سَتوت :

سَتكونُ  طَريقكَ إلى نولجا مُمَهَّدَة، كُلَّما تذكَّرْتَ وصايايَ  .

شكرَها سَرْدوك ، وَهْوَ لَمْ يَعْتَدْ شُكْرَ أحَدٍ، وحَسَبَها أتمّتْ حَديثَها. لكنها أمْسَكَتْ

بلِجامِ حِصانِه، وقالتْ :

هذا الحِصانُ لنْ يُفيدَكَ، إذبَحْهً لآكُلَ لَحْمَهُ، وسأعْطيكَ ابَني بَدَلاً عنه ، ها هُوَ هُناكَ ،  سَحَرْتٍهُ حِصانًا وَرَبَطْتُهُ إلى جِذعِ الشَّجَرَةِ، فخُذهُ مَعَكَ، سيُعينُكَ في دَرْبِكَ .

فَعَلَ سَرْدوك ما قالَتِ العَجوزُ السّاحِرَة ومَضى يَرْكَبُ ظهْرَ ابنِها المَسْحورِ حِصانًا .

وما أنْ بلَغَ بَيْتَهُ، أحَسّ أنَّ الدُّنْيا بدأتْ تدورُ بِهِ ، مَلآنَةً بالهُمومِ وَبِكلِّ ما يطردُ النومَ  والسَّكينةَ مِنْ عُيونِ الرّاغِبِ فيهُما والمُحْتاجِ إليْهِما  .

نادى امَّهُ، قالَ لها :

أعِدّي لِيَ الفِراشَ، فلنْ يَهدَأ أوْ يَصْفُوَ لي بالٌ وَلنْ يَحْسُنَ حالي إلاّ بنولجا .

قالت الأم  :

وَيْحَكَ يا وَلَدي، يا أعَزّ مِنْ كَبدي،

هذِهِ ابْنَةُ غولَة ستقتلُكَ وتأكلُكَ لَحْمًا أخضَرَ .

تلهو بكَ ما طابَ لَها وتتسلّى قليلًا .

فالدَّرْبُ إليْها وَعِرٌ وخطيرٌ ، حَذارِ يا وَلَدي ،  فأنتَ  كلُّ ما أمْلِكُ .

لم يُصْغِ إلى ما قالتْ ،

قال :

اخلَعي ثِيابَكِ البيضَ والبسي السّودَ ، فابنكِ سيرْحَلُ غدًا ولن يَعودَ إلاّ إذا فازَ بِقلْبِ نولجا .

هَيّئي لي زادًا لِسَفَرٍ طويلٍ وَضَعي في الزّادِ سبعَةَ أرْغِفَة .

وفي اليَوْمِ التالي خرَجَ في طَريقِهِ ، يقودُهُ الحِصانُ المَسْحور .وَصَلَ إلى وادٍ تحِفّ

بِهِ الجبالُ العالِيَة، سارَ في وادٍ عَريضٍ ، أخذَ يَضيقُ كُلَّما تقدّم به . وفي اكثر المَواقِع ضيقًا ، انتصَبَ الغولُ مُخيفًا ،عيْناهُ تقدَحُ شرَرًا والشَّعْرُ الأبيَضُ يكسو رَأسَهُ ويَهْرِشُ فيهِ، وقد بَدَتْ أصابِعُ يديْهِ كالكَمّاشَة ، إذا ما أطبقتْ عَلى ضَحِيّةٍ خنقتْها ووَقَعَتْ فريستهُ مَيْتةً في الحال  .

سلّمَ عَليْهِ و حَيّاهُ :

عَليْكَ السَّلام .

هَمْهَمَ الغولُ :

" لولا سَلامك ما سبق كلامك، لَسْمِعِتْ طرْطقة عظامك من آخِرِ الوادي " .

كانَ سَرْدوك في عَجَلَةٍ مِنْ أمْرِهِ، لَمْ تخُنْهُ شَجاعَتُهُ، عاجَلَهُ و ناوَلَهُ الآرْغِفَةَ السَّبعة، كَما أوْصَتْهُ ستوت، فانشغلَ الغولُ في قضْمِها وَسارَ هُوَ يُواصِلُ رُكوبَهُ الحِصانَ المَسْحور ، غيْرَ آبِهٍ ، قطَعَ الوادي الآخِذَ في الاتِّساعِ وسارَ في دَرْبٍ صَحْراوِيٍّ ،  فانقضَّتْ عَليْهِ غُرْبانٌ بيضاء سبعة ، كلَّما مَزّقَ بسَيْفِهِ أجْنْحَةَ أحَدِها ، انبَرى الثاني فالثالثُ إلى الانقِضاضِ عليه . أتعَبَهُ الصِراعُ مع العقبان ، لكنَّهُ نجَحَ في النهاية في  تمزيقِ شمْلِها وقطعِ اجْنِحَتِها وقتلِها .

لم يفاجأ، إذ خرَجَتْ من بين الرّيشِ فتاةٌ نِصْف عارِيَة ، حاوَلَت الاقتِرابَ مِنهُ ، فابتعَدَ عنها . وأتى بإشارَةٍ تؤكِّدُ رفضَهُ لها، فألقتْ بِما كانَ يَسْترُ نِصْفَها السُّفلي وتقدمت نَحْوَهُ عارِيَةً، فأشاحَ بِوَجْهِهِ وتابَعَ سَيْرَهُ ، مُخلّفًا الفتاة المُغرِيَة خلفَهُ . فلمْ  يَسْتسْلِمْ  لإغرائها .

لمْ يَنظُرْ إلى الخلْف. نظرَ أمامًا ، فظهَرَ لَهُ مِنَ البَعيدِ شَجَرٌ كانَ يتحَرَّكُ .بدا له أنّ  للشجرِ أصابعُ وأن الفروعَ الخضْراءَ كانَتْ تتقدّم زاحِفةً لِلِقائِهِ .

خافَ، في البِدايَةِ ،وأدرَكَ أنّهُ في وَرْطَةٍ خطِرَة . لكنَّهُ سَرْعانَ ما استعادَ شَجاعَتهُ ،  فانقضَّ عَلى الفُروعِ الزّاحِفَة بِسَيْفِهِ فتراجَعَتْ مَذهولَةً وانكَمَشتْ، وفاجأتْهُ، إذ أخذتْ  في الانتِصابِ مُسْتعيدَةً شكلَها الأوَّلَ، فبَدَتْ غابَةً حَقيقيَّة .

وما أنْ تقدَّمَ قليلًا وسطَ الغابَةِ، حَتّى فاجَأهُ بيْتٌ لمْ يَلمَحْهُ مِنْ قبْلُ ، خَرَجَتْ مِنهُ فتاةٌ  في غايَةِ الحُسْنِ، فعَرَفَ فيها نولجا وسَرْعانَ ما وَقعَ الواحِدُ في حُبِّ الآخر .

قالتْ نولْجا وقدْ رَأتْ أنّ الشمْسَ تجنَحُ إلى الغُروب :

هذا أوانُ عَوْدةِ أمّي منَ الصَّيْدِ. فخافتْ على سردوك ، إذْ أدْرَكَتْ أنَّ أمَّها سَتأكلُهُ حينَ  تمْسِكُهُ في  صُحْبَتِها. فكَّرَتْ أيْنَ وكيْفَ سَتُخبِّئهُ، فلا تجِدُهُ أمُّها .

نفختْ فيهِ وكانتْ جالِسَةً في حِضْنِهِ ، فسحَرَتْهُ وباتَ دَبّوسَ شعْرٍ، خبّأتْهُ في شعرها.

في المَساءِ عادتْ أمُّها كالمُعتادِ وقد تزنّرَتْ برُؤوسِ ضَحاياها مِنْ آدَمِيّينَ وغير

آدميين . شمّتْ رائِحَةَ إنْس ، فاستغربَتِ الأمْرَ ، فسألت ابنتها عَمّا كانَ إنسٌ في  صُحبَتِها .

قالت نولجا :

الانسُ فيك ِ،مِنْ كثرَةِ ما اصطدْتِ مِنهُم، عَلِقت رائِحَتهُم في أنوفِكِ .وأنكرَتْ كُلَّ  علم  لَها بوُجودِ إنس . وانبَرَتْ إلى تمْشيطِ شَعْرِها وَتصْفيفِهِ  .

قلبت  الأم البيت  تفتيشا ،  نبشت  كل  زواياه ، فتشت خارجه ،  نظرت  في  البئر ،  بحثت  في الحاكورة المجاورة وكل شَجَرَةٍ من أشجار الغابة  القريبة ، لكنها  لم  تجد  أثرا  لإنس .  ضحكت  من  نفسها ،  لم  يبق  الاّ  نولجا  أفتش شعرها ،  لكنها  ألقت  بنفسها  على  التراب  ونامت .  كانت  متعبة ،  حدّثت  نفسها  :

سأبحث ، في الصباحِ ، عند طلوعِ الفجر .

غفت  ونامت  وابتدأت  بالشخير .

نظرت  نولجا  الى  عيني  أمها ، فوجدتهما  حمراوين ،  شديدتي الاحمرار ،فتأكد ت  انها  غطست  في  نومها .  فانزوت  في  زاويتها  المعهودة  ولم  تنم .  وحين  انتصف  الليل نهضت  وخرجت ،  فحولت  الدبوس الى  ما  كانت  تتمنّى  لنفسها ،  ووجدت  الحصان  عاد  الى  مكانه  بعد  أن  اختفى  عن  الأنظار .  ركباه  سريعا  ولاذا  بالفرار .  وفي  الصباح  لم  تجد  الأم  ابنتها ،  فتأكّدت  من  امر  اختفائها .

بكت  الأم  بكاء"  مريرا  لفقدها  ابنتها .  صعدت ، باكية ،  شجرة  عالية  في  وسط  ساحة  البيت  وأصغت  للريح ،  فعرفت  اتجاه  الهرب  والاختفاء .  نزلت  من  أعلى  الشجرة ،  مصممة  أن  تستعيد  ابنتها . في  لحظة  استحالت  حمامة  وانطلقت  في  اثر  ابنتها .  رأتها  نولجا  مقبلة ،  طائرة ،  فاستحالت  صقرا  ينتف  ريش  أمها ويبكيها  بألم  ومرارة  .  عادت  الأم  منتوفة الريش , لكنها  لم  تستسلم ،

فاستحالت  سهما  انطلق  سريعا .

قالت :  يا  سهم  كن  قاتلا"  لمن  في  صحبة  نولجا ، أمّا  هي  فلا  تصبها  بأذى .  وانطلق  السهم . أبصرته نولجا  منطلقا ،  يصفر  كالريح ، فاستحالت  درعا  يحيط  بسردوك  وحصانه ،  انكسر  عليه  السهم  المنطلق فلقا  متناثرة  تذ روها  الريح .

غضبت  الأم  ، فاستحالت  ريحا  قاتلة  البرودة ،  فتحولت  نولجا  الى  غطاء  يرد  البرد  وقرص  الريح ، يقي  سردوك  وحصانه . أعيت  نولجا  أمها ،  فسألت  الجبال  أن  تصير حاجزا  يرد  نولجا  ومن  معها  اليها ، فاعترضت  الجبال  مسيرتهم ،  لكن  الحصان  استحال  نسرا ،  ينهب  بجناحيه  أرجاء  الفضاء .

لم  تجد  الأم  من  حيلة  تلجأ   اليها، فعاد ت  باكية  كسيرة .

أحزنها  أن  ابنتها   هربت  مع  أول  رجل  طرق  بابها  وأن  من  رحمها  خرج

من  ينقلب  عليها  ،  يصير صقرا  ينتف  ريشها  ،  يبقيها  بلا  ريش ،  ويصير  درعا  تنكسر  عليه  سهامها  وغطاءا   يرد  شديد  بردها .

أدركت الأم  بمرارة أن  بقاء  الحال  على  ما  هو  عليه  ضرب  من  المحال وأن  ما  كان  لن يعود  و  أن  ما حدث   هو  ما  سيكون ،  وأن  ما  علمته  ابنتها  وما  علمتها  الحياة   يفوق  كثيرا  ما  تعلّمته  هي  في  حياتها .  ولن  تكون  البنت  برأفة  وحنان   ،  كالأم  ،  الاّ    متى  صارت  أما" .  بكت  الأم  طويلا  وعاد ت   الى  ما  كانت  عليه .جلست  وحيدة  عند  حافة  البئر ،  أول  مرة .  نظرت  حولها ، تبحث عنها بعينيها المتعبتين ، فلم  تجدها . واست  نفسها  وعزّتها ،  كان  من  المحتّم  أن   تتركها  يوما  ما ،  ستتركها  برضى  وتتركها  بسخط ،  وقد  تتركها  بعنف أو لين .

فهذه  سنّة  الحياة ! .

حدّثت  نفسها ،  بألم  وحسرة ، قبل  النوم  الداهم والمتسلل  الى  عينيها  ،  ذاك

المساء، سأتعوّد  على  العيش  وحدي ، سأعيش  وأموت  وحيدة .  أسموني  غولة  وسأعيش  مثل  غولة ، قالت .

أحسّت  بالنعاس  الآسر يتملّكها ويتسلل  الى  عينيها ، استسلمت لظلاله  ورؤاه ونامت .

أما  نولجا  فواصلت  الطريق  غير  هيابة . وفي  المساء  وصلوا  البيت متعبين .

غمر  الفرح  الجارف الوالدين ،الأب  والأم  ، الأمير  والأميرة .  نادى  المنادي  في  الحارات  والسهول  والوديان  والدواوير  النائية  والقريبة :

ألفرح  في  دار  الأمير.  شهرا  كاملا  ستكون  مائد ته عامرة  ،  ولن يكون  طعام  أو  شراب  الاّ  في  بيت  الأمير .  يعقب  ذلك  فرح  العرس الذي  يدوم  أسبوعا  ،  يليه  شهر  العسل .

وفي  زحمة  الفرح دفعت  الأم  كل  تفكير :

نولجا  من  تكون ؟

وكانت  تد رك في  قرارة  نفسها  أن  ابنها اختار  عروسه ولن  يثنيه  عن  قراره  شيء .

وكما  في  الحكايا  كذلك  في  الحياة  ، أكدت  امي ،  عمر  الهناء والفرح  قصير  .

قالت :

الهناء  لا  يد وم   والفرح  لا  يطول  ، تعود  الحياة الى  ما  هي  ،  الى  حقيقتها ،  عامرة  بالحب  والبغضاء،  بالفرح  والحزن ،  باللذّة  والألم  ،  بالبساطة  والعقد ،  بالسذاجة  والمكائد ،  بالوفاء  والغيرة .

وما  ان  تمت  الأفراح  ،  وانتهت  الليالي  الملاح ،  وراحت  السكرة  وجاءت  الفكرة ، سألت  الزوجة الأميرة  زوجها  الأمير  ما ان  اختلت  به  واطبقت  رجليها  حول  خناقه :

اذا  كان  نَسِي َ حقا ً نولجا  مَن  تكون ؟

قالت  لِزوجِها  :

نولجا ابنة  المرأة   التي  عملت  في  بيتنا ، ألا  تزال  تذكرها ؟  رغم  مخاوفي  من  شبابها  وجمالها  عليك ،  رضيت  بها  تعمل  في  غرفة  نومنا ،  فكنت  كمن  يقبل  أن  يدخل  أفعى  الى  سرير  نومه ، ضبطتكما ،  مسك اليد ،  عاريين  في  سرير

الزوجية .  وخوفا  من  الفضيحة  ،  نقلناها  الى  العمل  في  الزريبة ،  فالتفّت  على  الراعي  فحملت  منه ،  وبعد  أن  أنجبت  ، لوهمنا ،  سرّا  ،  طردناها  من  البيت  شر  طردة     وأبعدناها  بعيدا  عن  البلد،  تلاحقها  شتائم   الناس  والحجارة ،  وزعمنا  أنها  غولة .  ألا  تذكرها ،  انها  ابنة  الراعي ،  فلا  هي  من  مقام  ابني  ولا  هي  من  مقامنا . كانت جاريتك . أتراك  لا  تزال  تذكرها ، ان  نسيت  فلم  أنس . وكانت  فوق  هذا  خليلتك ، تراك  نسيت .

قال  الزوج :

حسبنا  عظامها  صارت  مكاحل ،  فلا  أحب  أن  أذكرها  ،  نولجا  عروس  ابننا .  ولكني  لم  أنسها ، أجابت  الزوجة ،  فالمقروس  يخاف  من  جرّة  الحبل . خيالها  يذكرني  بأمها ،  بجمالها وفعالها .

 

* * **

قالت  أمي :

كانت  الغيرة  من  سمات  الرجل ،  ظهرت  وكبرت  معه  وتأصلت  فيه ،  لقناعته  وظنه  أن المرأة  سلعة  ،  مثل  كل  السلع ، يقتنيها  ويمتلكها  ويرى  أن  من  مواصفات  هذه  السلعة  الاخلاص له. وقد  انتقلت  مع  الوقت الى المرأة  ،  فصارت  من  سماتها ،  حتى  صحّ  فيها  القول  :

لولا  الغيرة  ما حبلت  أميرة .

 

*** *

 

قالت  الأم  الأميرة  :

لن  يهدأ  لي  بال ،  حتى  أنقذ  ابني، وأستعيده الى حظيرتي .

 

** * *

أتاها  الفرج  ، كالعادة ،  من  حيث  لم  تكن  تتوقع .

اكتشف  ضبع  جائع  وشرس  ،  بطريق  الصدفة ، فتحة  في  سياج  زريبة  الأمير  التي  تؤوي  خرافه  الخاصة  ،  الد سمة  والمحببة .

اختفى  ،  في  البداية ،  كلب  الزريبة.و اختفى في اليوم الثاني  أحد  الخراف ،

فأثار  الأمر  مخاوف  الأمير .  وقد  ازدادت  هذه  المخاوف  بعد  فقدان  خروف  آخر .

قالت  زوجة  الأمير :

أكثر  ما  يخيفني ، أن  تكون  غولة   ، هي  التي  افترست  الخراف .

قال  الزوج  الأمير ،  وقد  حاول  اخفاء  قلقه  ومخاوفه :

عن  أية  غولة  تتحدثين ،  ونحن  من  أوجد قٌصة  الغولة ،  فليس  ثمّة  غيلان .

قالت  الزوجة :

يخيفني  هاجس  ،  لا أخفيه ،  أن  تكون  نولجا  عادت  الى  ما  كانت  عليه ،  ابنة  غولة.

قال ، نولجا  زوجة  ابننا  ،  ابنك ،  فلا  يجوز  التحدّث  عنها  بهذه  الطريقة .

قالت  ،  وقد  انسبقت  في  كلامها ، هي  زوج  ابني ، ولدي،  فهي  ابنة  غولة .

 

****

 

قضى  سردوك  أياما  جميلة  وهنيّة  بصحبة  زوجته  الشابة  والجميلة .  غمرته  بحبها  وحنانها وأسعد ته بأبناء  حلوين ،  وكاد  ينسى  كل  ما  حواليه .  لكنّ  أمه  كانت  تتحيّن  الفرص  للنيل  من  زوجه ،  نولجا.

كان  الأمر  محتملا  في  البداية ،  ثم  استحال  جحيما .  وقد  فاجأته  في  أحد  الأيام بمخاوفها  فيما  يخص فقدا ن  الخرفان .

حاول  في  البداية  دفعها  بلطف  من  يحب  زوجته  ويحب  والديه . ولكنه بات  كمن  يعيش  بين  نارين ، بين  زوجته  وبين  أمه . فكان  لهذه  الأخيرة  الغلبة ،  ولعبت  في  عقل  ابنها واستغلت  في  ذلك  طيبة زوجها  وابنها  وحليب  الأم  ،  كما  اعتادت  تقول :

انتصر  ثدي  الأم  وانهزم  ثدي  الزوجة .

فحين  كان  عليه  أن  يختار ،  اختار  أمّه .

كانت  لحوحة وكثرت  الأقاويل .

وحين  أدركت  نواجا  حقيقة  نوايا  حماتها  ،  كان  الوقت  متأخرا .

حدّثت  نولجا  زوجها  :

قالت  كنتُ  الدرع  الذي  كسر  سهام  أمي ،  وكنتُ  الغطاء  الذي  حماك  لحظة اشتد  خطر  الريح  الباردة  ،  وكنتُ  الصقر  الذي  نتف  ريش  امّي .  كل  هذا وغيره  نسيته  في  عجل، واستسلمت  لقدرها .

قالت  ، وبكت  في  وجع  المستسلم وقد  رأت  السكين  يلمع  في  جيبه ، لم  تكن  أمي  غولة ،  ولم  أكن  ابنة  غولة ،  كثرت  الأقاويل فصد قناها وتصدقها ، فصرنا  خلا ف  ما  كنا  وما  نحن .  وأغمضت  عينيها .

 

* * *

 

قالت  أمُّ سردوك :

اختفى  كل  أثر  لنولجا  ،  وكان  سردوك  الوحيد ،  الذي  يعرف  قبرها  وأين  يكون  وفيه كان دفنها بعد موتها  و كان يعرف  كذلك  أن  نولجا  لم  تكن  ابنة  غولة .

لم  تفلح  أمه  في  حمله  على  الزواج ، قضى  بقية  عمره  حزينا  ونادما

على  فعلته . أسهَمَ في الخَلاصِ  من زوجه  وكان  بعده  يقول  كثيرًا مُحَدِّثًا نفسه  ، يقولُ :

لكن  هل  ينفع  الندم ؟

وراح  بعدها  يقضي  جل  وقته  في  الصيد  في  الوعور   والبراري ، عَلَّهُ  ينسى .

 

قادته  قدماه  ، يوما ،  الى  غابٍ  كثيف ،  يقع  فيه  قبر  نولجا . تأكّد  من  المكان ،  فتفحّص  التراب ،  علّه  يجد  شيئا  من  اثرها .  نبش  التراب ،  بغير  حذر فطارت  عظمة ،  كان  واضحا  أنها  من  بقايا  عظامها ، أصابته  في  عينه ،  فاقتلعتها . وتَذَكَّر  ما قالت  له زوجته :

إن  قَتَلْتَني  ،

ستظَلُّ  في  حَياتِكَ  فاقِدَ  البَصَر!

و هو  ما  حَدَثَ  فصار  فاقد  البصر  في  احدى  عينيه والبصيرة في حياته .

ربما يعجبك أيضا

عن إبراهيم مالك

عن إبراهيم مالك

ابراهيم مالك كاتب وشاعر فلسطيني من مواليد 1942، وُلِدَ في قرية " سمخ "الفلسطينية المُهَجَّرَة والمُدَمَّرة، أبوه من الجزائر وأمُّهُ من تونس . كثيرًا ما أكَّدَ أنه وليد ثقافتين عربيَّتين ـ إسلامِيَّتيْن، مَغْرِبيَّتيْن ـ شرقيَّتيْن وتأثر كثيرًا بفكر وشعر رموزهما كأبي بكر بن الطفيل وابي العلاء المعرّي ومحمد ابن العرب وعمر الخيام وابن الحلاّج، ووليد الثقافة الإنسانية مُتَعَدِّدَةِ البيئات.

,

اقرأ/ي المزيد..

اتصلوا بنا

;