تأملات المُلَقَّب شَيْخ مطيع وَوَلدُهُ سعيد زادَتْهُما قناعَةً

بداية الجزء الثاني من عملي النثري
لَنْ يَتَغَيَّر ما نَحْنُ فيه
ما لَمْ نُغَيِّرْ ما بأنفُسِنا
ابراهيم مالك*
شعر أولاد شيخ مُطيع الثلاثة، سعيد، مسعود وأسعد، شعروا بفرحٍ موجع، لكن مُطَمْئِنٍ، حين حدَّثَهُم أبوهم ثانيةً ذات يوم في منتصف العقد الثاني للترحيل الرابع، ما يعرف بعام النكبة، عام 1948، عام نكبة الغُزاة الآتين من الغرب الشمالي ونكبة ضحاياهم، حدَّثّهُم عما تورَّطَ به أبوه ـ جَدُّهُم عبد الرازق ـ وعمّا تَوَرَّط هو بشبهه ـ ورطَةِ القتل، وأكَّد لهم بوجعٍ وحالة بُكاءٍ صامتٍ لافتة للنظر، أكَّد كم سيتمنى ما بقي حيًّا وتقدَّمَ عمرهم أن لا يتورَّطَ أيٌّ منهم أو غيرهم من ناس عالمنا بمثل هذه الورطة، فهي بداية التدمير الذاتي وتدمير الآخر !
قال شيخ مُطيع يومها، وكان الأولاد الثلاثة يصغون لأبيهم بفرح وحزن، قال :
كان ابي قبل أكثر من سبعين سنة تقريبا وقبل ولادتي عضوا في مجلس العشرة المُعيَّن من رؤساء قبائل ساكنة قريبا من سوقهراس في شرق الجزائر والمحاذية للقمم المُرتفعة في غرب تونس والمُطِلَّة على مدينة عِنّابة الواقعة في الشرق
البحري للجزائر.
وكان المجلس يُعنى بالشؤون المحلية الاجتماعية لتلك القبائل، لا السياسية.
وذات يوم قرَّرَ المجلس قتل الحاكم الإفريقي السنغالي المُعَين من الكولون
الفرنسيين في مدينة سوقهراس احتجاجًا على اختيار قائد عسكريٍّ سنغالِيِّ
الأصول وَعلى ما تفعلهُ السُّلْطات الفرنسِيَّة الاستِعْمارِيَّة، فاختار المجلس
اثنين من أعضائه لِقتل ذاك الحاكم وكان ابي أحدهما، ولم يكن صدفة اختيار أبي، كان أعضاء المجلس يُدرِكون حالة أبي ورغبته في الانتقام من قادة الكولون الفرنسيين الذين قتلوا أباه ذات يوم , اشترك بقتل ذاك الحاكم، فارتكبَ غلطَة حياةِ موجِعَةٍ وكَريهة.
في البدء لم ينجح الكولون الفرنسيون في معرفة القاتلين، لكن بعد تزايد
عدد المواطنين المحليين المرتبطين بشكل وآخر بالكولون الفرنسيين،
سَرعان ما بدأت تنتشِر شائعات تتحدَّث عن احتمالات من يكون القتلة،
بعدها بدأ والدي يختفي ويختبئ في مغاراتِ قِمَمِ الوَعْر المحيطة والقريبة
الواقعة قرب وادي مجردة.
واشتدَّ قلق أبي ومخاوف العائلة، خاصة بعد اعتقال واختفاء خالي حْمِدْ بن
حَمْدان، فقرَّرَ والدي الرحيل حالاً إلى تونس ولاحقًا واصل الرحيل إلى
سوريا.
وحين تورَّطْتُ مِثله في حادث قتل وهربنا من دمشق ووصلنا إلى الفولة ـ العفولة في مرج بني عامر السوري الفلسطيني، بدأتُ مع تقدم العمر أسأل نفسي عن غباء تَوَرُّطِنا، تَوَرُّط أبي وَتوَرُّطي أنا.
وازددتُ قناعة أنَّ هذا التورط كان وليد قِلَّةِ عقل وتجربةِ حياة، لم نكُنْ حَذِرَيْن، ولم نُفكِّر، لنبحث عن حلٍّ عاقِلٍ لمُشكِلَتينا ـ هو نَقيضُ ما تورَّطْنا به ـ وهذا التَّوَرُّط هُوَ ما سَهَّل وعجَّل مأساة الرحيل والترحيل وفقدان الوطن الأوَّل الجزائر والوطن الثاني سورِيَّة الكبرى وبتنا بلا وطن.
آلمني كثيرًا، أنَّني لم أتعلم من تجربة أبي !
لَحظتها التزم شيخ مُطيع الصمت وبان اشتداد حزنه، صمت قليلًا، عندها رفع رأسه وبدأ يتأمَّل أولاده للكشف عَمّا في أنفسهم، قال بعد صمته :
ما أوَدُّ هُوَ أن تصيروا خلاف ما كنتُ وكانَ جدُّكم وأنْ تتعلَّموا من التجربة
الحَياتِيَّة.
عادَ بعدَها إلى صمته وانفَضَّ الأولاد من حوله وخرجوا من البيت يتحدَّثون مع أنفسهم في صمت.
طال صمت الشيخ مًطيع، حينها، طويلا، وكان صمتُهُ موجِعًا وقد راح بوجعٍ صامتٍ يتأمل مسار حياته ذات يوم، وقد تَقَدَّمَ العمرُ به، بعد مُرور سنوات مأساة حرب 1967، التي لم تكن حربًا، بل كانت عُدوانا عنيفًا جِدًّا وبدايةَ لهيمنة شرسة اخرى، اجتاحت كلَّ ما كان وطنه وناسه، واجتاحتنا رغبة الغزاة الصِّغار والكبار الشرسة الجشِعًة العنيفة في تحقيق تطهير عرقي لهذا الوطن وناسه، فاعتادَ شيخ مطيع الجُلوس كثيرا وطويلا، فوق كُرْسِيِّه الخشبي الأشبه بكرسيِّ حجر مقصوص من صخرة أومن بقايا بيت دَمَّره ما كان من حروب ذات زمن، الجُلوس صامتا
ومُحَدِّثًا نفسه، مُحَدِّثًا عائلته وبعض صحبه بهمسِ موجوعٍ مُلاحَظٍ، عند مسطبة البيت الذي بات يسكنه في قريةِ وعرة الزيتون الجليلية، المُطَلَّة على البحر، عند السفوح الغربية الشمالية لِما بات وطنه الرابع بعد الرحيل الأوَّل، الثاني، الثالث والرابع في مسار حياته الأشبه بلحظة، لكن لحظة وجع لا يعرف نهاية الوجع ولا بداية إطلالة فجرِ خلاصٍ واعد ومفرح.
حين ذكر أوطانه وذكر الوطن الرابع حدَّثَ نفسه بصمتٍ صارخٍ وموجوع :
ويحي ـ ويلي يا رب !
أيُعقلُ أن أقبل بدولةِ وطنٍ كهذه جاء يفرضها غُزاة ؟،
أكَّدَ في همسٍ شبه حالِمٍ :
لن يكون هذا البلد الذي وصلناه بعد ترحيل دائم وطويل ودولته المَفْروضَة، لن يكون ولن يصير وطنًا لي أو لغيري، ما لم يَصِرْ وطن بيئة إنسانية حالمة بعُشِّ طيورٍ مشترك آمِن وحالمة بتعايُشٍ خالٍ من الشهوات الجسدية، شهوات البطنِ والجَيْب والعقلٍ العنيفٍ الشرس، وما لم يَصِرْ وطنَ تواصلٍ إنسانِيٍّ كريم.
لَحْظَتَها اشتَعَلَتْ ذاكرته غضبًا ووجعًا، وكان شيخ مطيع قد وَدَّ كثيرا ودائمَا في صمته وحواره مع أولاده وصحبه لو أنهم سيدركون أنَّ ما كان يريدُه ويتوخّاه في الحديث عن مسار حياته وحياة بيئته وبيئات عالمه هو التوصُّل عن طريق هذا التَّأملِ الصارخ الهامس، إلى فكرة إنسانية بسيطة ومُعقدة، لكن يجدرُ بنا معرفتها وفحصها وجعلها سؤال مسار حياة إنسانيتنا بالقراءة المُتأملة والواعية حقيقة.
وهذه الفكرة أتعبت ذِهنَ الشيخ كثيرا وذِهنَ ولده سعيد أكثر، فطالما سألا نفسيهما وهما سارحان في هذا التأمُّلِ وكثيرا ما سألَ شيخ مطيع نفسه، وهو جالسٌ وحده كعادته على حجرٍ، كانَ أشبه بكرسيٍّ للجلوس في زاوية تراب عند مَدخل البيت :
أحقًا أنَّ عالمنا لا يتغيَّر ؟
وإن تغيَّرَ، فهل سيتغيَّر إن لم نجِدْ ما هو نقيضه، أحسن منه عملًا وعقلا وأكثر تواصلًا إنسانيًا ؟!
وكيف سنبدأ البحثَ عمّا هو الأحسن ؟.
آملُ أنْ نبدأ نتعرَّفُ عليه بالقراءة والتساؤل، بعدَ دِراسةٍ فاحِصَةٍ ومُلَخِّصَةٍ لتجربة هذه الحياة وما بِتْنا فيه ونطمح عندها للفوز به بعملِ عقل، بالتواصل بينَ ذاتٍ وأخرى وبعيدًا عن العنف والجشع !
***
أكَّدَ الشيخ مطيع لأولاده الثلاثة أكثر من مرة كُلَّما لاحظ تقدُّمَ عمره، أكَّدّ لهم أنَّ عالمنا اليوم استحال قرية صغيرة وأنَّ أكثر ما بات يُمَيِّز هذه القرية الصَّغيرة أنَّ شيئا باتَ لا يتغيّر في حياتها، وكم توجعني حياتنا كّلَّما تأمَّلُت ناسها في هذه الأيام واسعة النكبات و كثيرة المنحدرات موجِعَة السقوط، كثيرة الأسوار الفاصلة بين حواكير هذه القرية، بين الأخ وأخيه، بين جارٍ وجارِهِ، بينٍ إنسان وآخر، بينَ آخر وأخرى، ودائِمَةِ السُّقوطِ في الجشع، العنف والمُنْكَر.
يذكرني السور الذي نعيش داخله بحوشٍ بنيناه في قرية فولة، كنعانية وعربية الأصول، التي أتيناها من دمشق، يُذكِّرني هذا السور بأسوارٍ من حجر وحديد عشتُ بينها في أثناء حبسي بعد ورطتي في دمشق وداخل ذاك الحوش في العفولة. فبات حُلُمي وأملي ألّا أعيش ثانية في سورٍ من حجرٍ أو حديد ولا في سياجات حوش أو سِجن وما يُحْزِنُني، ليلَ نهارٍ، هو ما بتنا نعيشُهُ في الدولة الغازية القائمة بكل عُنْفٍ في البلد الذي تمَنَّيتُ أن يصير وطني.
قالَ الملقب شيخ مطيع :
شيدنا بيتا سَرعان ما نهب الغزاة الأرض التي كانت تحته. فصار اسم قرية فولة، التي جِئْناها من دمشق العاصمة السوريَّة القديمة، صار اسمها مستوطنة العفّولة.
بعدّها، قال محزونا، دهمنا الهجيج الرابع الأخير وما كان بعده من تَّطهير عرقي لِأكثرَ ناسه وساكنيه، خسرنا يومها ما حسبناه سيصير أرضنا ووطنا، فظهر أن الأرض باتت للغزاة القدامى ـ الأتراك العثمانيّين ـ والجدد ـ الإنجليز ـ، وبعد كلِّ غزوة وقَعَتْ في القديم أو قد تقع اليَوْمَ أو غَدًا، تصيرُ أرضَ ناسِها، أرضًا لمن لم يكن يعمل فيها ومن لم يكن وُلِدَ فيها ومن لم يصلها صدفة، فكُلُّ ما كانَهُ كانَ غازٍ موهَمًا وموهِمًا.
أكَّدَ بصوتِ موجوعٍ صارَ التَّهجيجُ الأخير يُفْقِدُني كُلَّ فُرَصِ عَمَلٍ مُلائِمَة لسِنِّ قريبٍ مِنَ الشَّيْخوخة ـ فُرَصِ عملٍ تُوَفِّرُ لنا التواصل مع آخر، عيشًا، سَكَنًا وخبزًا كريمًا ـ وصارَ يهدُّ ما أبقت فيّ الحياة من بعض سِعَةِ عَقلٍ، وهي أكثر ما تمنَّيْتُهُ طويلًا وكثيرا وقد عّلَّمَتني تجربة ورطتي وورطة أبي، فبِتُّ أبتعد عن كُلِّ عنفٍ وأبحثُ عن مَسارِ حياةٍ يكْسِبُني أملَ حياةٍ مُتَسائلة ـ كَثيرَةِ التساؤل، دائمة البحث عن كلِّ ما يُحْتَمَلُ أن يكون جديدًا مُفيدًا ونافعًا، فأزداد ونزدادُ قوّة حياة.
وخسرنا في التَّهجيجِ ما شيّدناهُ مِنْ جَديد.
نهبوا الأرض،
ما اشتريناه بعرقنا
ودَمَّروا ما بنينا فوق تلك الأرض من بيتِ سكن.
واستحالت قريتنا الجديدة سَمَخُ الواقعة إلى الشمال القريب من جسر المجامع وبيسان، استحالت سَمَخْ كومة حجارة وطينِ بُيوتٍ مُدَمَّرَة وشيَّدوا فوقها بيتًا كبيرًا في محاولةٍ لإخفاء معالمها وما كان فيها من حواكير وطرقات تراب بسيطة، قال :
كنتُ يومها أسكن في مدينة حيفا عروس جبال الكرمل مع زوْجَتيَّ، الأولى الجزائرية والثانية تونِسِية الأصول، ومع ابنتي الثانية ومعكم يا أولادي الأحبة.
وفي حيفا اخترنا زوجتي الثانية، امُّكُم، وأنا أن نبنيَ لنا بيتا قريبًا من أهلها، تونِسِيّي وجزائريّي الأصول، للسكن فيه في سنوات الشيخوخة. وهذا البيت لم نسكنه ولو يوما، فكان واحدًا من بيوت قرية سمخ المهجَّرة المُدَمَّرَة.
وقد جئتُ حيفا للعمل في سِكَّة الحديد البريطانية، جِئْتُها من بلدة جسر المجامع التي كانت تجمع بين نهر اليرموك السوري وبين نهر الأردن الفلسطيني وفلسطين كانت ولاية في الجنوب السوري، وصلتُ حيفا آتِيًا من الفولة وجسر المجامع اللتين أبعِد كُلُّ ساكنيهما، حين اشترت وِكالة يهودية بمساعدة الغزاة الإنكليز الذين باتوا في نهاية الحرب العالمية حُكّامَها وسادَتَها، مُحْتلّيها، اشترت يومها أكثر من عشرين قرية في مرج بني عامر وأبْعَدَ الغُزاة والآتون مُهاجِرين ـ مُهجَّرين سكان تلك
القرى ورَحَّلوهم.
هزّ رأسَهُ مستغرِبًا حالَ دُنيانا، فِعْلَ ومنطِقَ الغازي القوي عُنْفًا والذي بات سَيِّدَ هذه الدُّنيا وسَيِّدَ أكثر ناسِها. وباتَ بعض ناسِها عبيدَ سادة زمانِنا الغزاة الجشعين الآتين من الغربِ البعيدِ ومن الشِّمال الغربي القريب.
فالأرض، ناسها وطبيعتها باتت لمن غلب في الحرب والعنف الذي كان يُمَيٍّزُها.
لعن الله هذا المنطق.
قال، مخاطبا أولاده :
اقتلَعوا الرّيشَ الذي كادَ ينمو لأجنحتنا.
سأل نفسه، هَمْسًا، وسأل أبناءه، جهارا، هل ثمَّة من عالَمٍ اليوم لا يَحْتكِمُ لمنطق القوّة العنيفة، بئس هذا العالم وبئس ما انحدَرَ إلَيْهِ من شرور حياة،
كاشَفَ أبناءَه وحَدَّثهم :
رُغمَ غبائي وبعدَ تَوَرّطي في حادثِ قَتْلٍ في دمشق الشام وتورُّطِ والِدي، جّدِّكُم في سوقهراس الجزائرية، تورُّطه في حادثِ عُنْفٍ آخر مُخْتَلِفِ الدافِعِ، صِرْتُ ولا أزالُ أحلُمُ بعالمٍ لا مكان فيه لمنطِقِ القوّة وبيئتها العنيفة.
أستغرَبَ، قالَ لهم، متسائلا :
ألا يُمْكِنُ بناء سعادَةٍ خاليةٍ مِنْ شَقاءِ الآخرين ؟
تذكّر خوفه، حدّثَ نفسَهُ :
أكثر ما يُسْكِتُ بعضَ ألَمي بعد التَّهجير الأخير، عزّى نفسه وأقنعها وأقنع أبناءه :
حالنا أفضل من أكثر ناس وطننا الصغير، الذين باتوا مُرَحَّلين، مُبْعَدين عن كثيرين من أهلهم، فصدفةً لم يحملنا الرحيل الرابع الأخير، على قسوته، بعيدا كالكثيرين. بقينا قريبين من بيوتنا المهدومة،غرباءَ في وطننا، لكننا بقينا فيه،
هذا نصف عزاء، أكَّدَ وقال.
البقاء كان صُدْفةً وهو، في نظري وما أتمَناه كثيرًا وطويلًا، سيكون أول خُطْوَةٍ، لنستعيد ذات يوم بعض ما كان ولنرتاح قليلا من بعض ما كُنا وصِرْنا... حين نفلح في التخلُّصِ مِمّا نحنُ فيه !
بعدها التزم الشيخ الصمتَ من جديد وتبادل أبناءه النظر وابتعدوا سريعًا وفي عيونهم بدأت تسِحُّ دموعُ حُزْنٍ وأمل.
***
اندهش الأولاد الثلاثة وكانوا لحظتها لم يبتعِدوا عن البيت ووالديهما، ألأم والأبُ، سمعوا الأب يدعوهم، ليُحَدِّثَهم آخِرَ ما كان يودُّ أن يقوله هذه المَرَّة، وحين عاد الأولاد وجلسوا قربه مُصغين كالعادة.
كاشف أولاده وكان قبلها تحدَّثَ عن ذلك أكثّرَ من مرة، قال :
في ربيع 1948، لا أذكر التاريخ بدقّة، في ذلك الوقت وقع ما بتنا نخافه وصرنا ضحيته :
لاجئين فيما كان وطننا.
وقع الرحيل - الترحيل المصحوب بالفزع والعُنْفِ القاتل والألم.
تركنا حيفا، من البوّابة شبه الآمنة والوحيدة المتبقّية حينها، بوّابة البحر، قاصدين عكا والشمال المجهول.
كان الناسُ يتحدّثون كثيرا بوجَعٍ عن القناصة اليهود في حيّ " الهدار " في أعلى المدينة، آنذاك، وعن القتل الذي بات عاديا. كان الكثيرون من ضحايا القنص عمالا بسطاء، يسكنون قرب محطّة القطارات المركزيّة وفي حي " المحطّة " المجاور وغيره، أرادوا الهرب من الموت الذي كان يدفعهم شرقا لينتظرهم رصاص القنّاصة المُميت، وأكثر أولئك الضحايا "حوارنة " ( أتوا من حوران في سوريا )، متاولة ( من جبل عامل في لبنان ) ومن مِنطقة جبل نابلس وجنين،
جاءوا حيفا يبحثون عن العمل في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي في معسكرات وورشات عمل تابعة للجيش البريطاني، فوجدوا في حيفا موتهم الفاجع.
أسأل نفسي أحيانا، قال الشيخ لِأولادِهِ :
كم من الدم الفلسطيني سُفِكَ، حتّى يومنا، ليعلو هذا " العمران " الإسرائيلي. وكم من الألم الإنساني الموجِع، الألم الفلسطيني، المجبول بالدم والمعاناة والظلم " لِزِمَ " لِبناء هذا " الخلاص " الإسرائيلي من هول ما لَحِقَ الإنسانَ اليهودي البسيط من غبن وعسف لم نكن سببه ومُقترفيه.
وأسأل نفسي كثيرا :
أيُّة عدالة هي هذه " العدالة " المهيمنة في عالمنا وتبيح مثل هذه الآلام والمعاناة والقتل اليومي الذي بات مصير الإنسان الفلسطيني .
وكم سألتُ نفسي :
أية سعادة هِيَ هذه التي تقوم على شقاء الآخرين ؟.
وسألت نفسي مرارا وتكرارا:
كيف يمكن العيش المشترك ما لم يسأل الآخر نفسَهُ عما فعله فيَّ ( فينا ) هو شخصيا وفعله من سبقوه وما لم يجر إصلاح بعض ما سبَّبه هذا الفعل من قتل متعمد، شتات وحزن ! وما لم تحدث قبلها انعطافة جدية تكشف عن نية حقيقية للتراجع عما كان ووقف نزيف الطرفين المتصارعين ؟ والبدء فعلا في إيجاد فرص تشهد بقرب حدوث هذه الانعطافة وقرب الخلاص مما نحن فيه !
لا أنكر أهمية وضرورة البحث عما يوصل حقا إلى عيش مشترك، بين من أسميهم الإخوة الأعداء، لكن هذا البحث يفترض أن يكون نِدِّيّا ومشتركا فعلا ويفترض كذلك نشوء قناعة واعية، كيلا تبقى حياتنا مسرحا يتبدل فوق خشبته دور الممثلين، المهزوم اليوم والمهزوم غدًا، كلما عاشت الحياة دورة أخرى دائمة الصراع العنيف !
يومها فقدْتُ بيتي الذي ابتنيته في سمخ، مسقط رأس أمكم زوجتي الثانية، لأقضي ونقضي فيه سنوات عمري الأخيرة قريبا من أختي خديجة أم محمد وعائلتها، أهل زوجتي، أمِّكُم. وخسرتُ مكان عملي وضاع في غمرة الأحداث الدامية والترحيل القسري، ضاع ما تمنَّيْتُ كثيرًا أن يَصيرَ وطني الثاني بعد وطني الأول – الجزائر.
فسمخ سقطت قبل سُقوط حيفا. وحُرِمَت أمُّكُم من أرضها في سمخ ومن الدفء الذي تحتاجه المرأة كثيرا وتشعر به، حين تدرك أنّ أهلها على مقربةٍ منها، وإن كانت مقربة بعيدة نسبيّا.
في ذلك العام، هُجِّرَ أهلها عنوة، فحملهم الهجيج شرقا بعيدا الى الشتات الموجع وباتت لا تدري :
في أيّ أرض ينزلون !.
وما أن وصلنا عكا مبعدين من حيفا، حتّى بدأتُ وزوج شقيقتي خديجة، صالح حسين المهنّاوي تونِسِيِّ جزائريِّ الأصول، الذي هو عمّ زوجتي الثانية ـ أمكم، نُعِدُّ في عَجَلٍ فزِعٍ العدّة للرحيل، وكانت أنباء المجازر المرتكبة في دير ياسين والطنطورة وغيرها، الفعلية والمضخّمة عمدا، تفقدنا وتفقِدُ كُلَّ الناس صوابهم وعقلهم.
وكانت عكا المدينة تشهد طوفانا بشريا من مبعدي القرى المجاورة وحِصارًا قاتلًا من الشمال والجنوب وتتهددها القوّات اليهوديّة، التي أحكمت حصارها على منافذها الرئيسيّة عند وادي النعامين، جنوبا، وعند قرية السميريّة، شِمالا، وحيِّ الدبّوية، شرقا.
قال الشيخ مطيع بلهجة فرحة محزونة :
وكان أن عَرَف، مُصادفة، ابنُ شقيقتي خديجة، محمّد، وحيدها بين أربع بنات، عَرَف ما نويته ونواه أبوه.
وقتها فِعْلًا حضرت سيّارة الرحيل شرقا ومن ثم شمالا إلى لبنان أو سوريا، حضرت لبدء الرحيل.
لكن ابن شقيقتي الذي كان حاضرا صدفة ومعه سلاحه – رشاش برن -، أقسم حالًا وبصوتٍ غاضبِ شبهَ باكٍ، أقسم أنّه سيقتل الجميع ويقتل نفسه إن جرت محاولة الرحيل.
وهكذا بقينا، فلم نرحل إلى المجهول، وجُنّبنا عواقب الضياع في شتاتٍ مُخيف.
بقينا في الوطن، كان البقاء فيه مُصادفة، فُرِضَت علينا قسراً، لم نناقشها ولم تسنح لنا فرصة مناقشتها.
كان علينا أن نقبل بالواقع الجديد، الدولة المغتصبة، هويّة، لغة، ثقافةً غريبة، مواطنة ونمط حياة.
كان علينا أن نقبل بالبقاء لاجئين في الوطن، إن شئنا البقاء، فللبقاء ثمن يفرضه المُحتل وغطرسته.
كان البقاء مجرَّد صدفة، لكنَّه استحال في البدء صمودا واعيا وهذا ما تمنَّيتُهُ، حقيقَةً لكن في صّمْتٍ موجِعٍ !.
والمُفارقة، وان تكن ليس كذلك، أنَّ ابن شقيقتي، محمّد، وكان يومها شابا، اعتقلته القوات اليهودية في مُعسكر" كردانة " البريطاني القريب من عكا، بعد أن سلّمها الانجليز ذلك المعسكر، ونقلته إلى معسكر الاعتقال في صرفند القريب من اليازور، وسط البلاد.وهناك ساموه أفظع صنوف التعذيب والإذلال، قبل نقله إلى معتقل عتليت الذي لا يقل عن معتقل صرفند قسوة ووحشيّة.
وأذكر أنّ أباه زوجَ شقيقتي كان يزوره في المعتقل ويعود إلى بيته في عكا حاملا ملابسه، لتغسلها أمُّه ـ أختي ـ من بقع الدم الناجمة عن الضرب والتعذيب.
وبعد المعتقل أجْبِرَ، تحت وطأة التعذيب، هوَ وكثيرون غيره على الرحيل إلى الأردن.
بقينا، ب "أمر " منه، أما هو فقد "اختار "الرحيل هربا ممّا رأى ومما عانى في الأسر، وقد حملته رياح الرحيل إلى أستراليا، حيثُ ضاع هناك كلُّ أثرٍ له وانقطعت أخباره.
لحظتها داهمت الشيخ مُطيع حاجة إنسانية الى حزن صامت، فصمت مُسَلِّمًا أُذنيه لكل ما بقي في نفسه من ذاكرة بعض ما حدث يومها.
رحلت به الذاكرة إلى الوراء زمناً طويلاً.
حَدَثَ ذلك قبل زمن ليس بالبعيد أو القريبِ، لكن لا يجوز أن ننسى.
حين كبُرَ خطرُ الغزاة، كانت مدينة عكا وأخواتها الأكبر والأصغر، عدد ناس، محاصرة بين جنودٍ آتين من الشمال القريب والبعيد وآخرين، شبههم، آتين من الجنوب تاركين بوابة البحر مفتوحة للموت بين تقلبات موجه، أو للموت البطيء في الشتات دائم الرحيل والترحيل، ومُبقينَ نافذة الشرق مفتوحة على المجهول القاتل، حيث يكون العيش بين رمل صحراء ورملِ عُمُرٍ شقي.
يومها حضر الشيخ مطيع مذهولا، وطلب من زوجته الأولى التي بقي معها وحيدا في البيت في عكا، طلب منها العجلة في الرحيل شرقاً، عبر حَيِّ الدبوية، قبل أن يصل الجنود الغزاة القنَّاصون، فيُقْتَلا قبل وصول الجنود !
قالت الزوجة بلهجة الواثق :
مجنون من يرحل،
سأحفر نفقاً في بيتي،
يخفيني قليلاً عن عيون الجنود،
فأداري رَصاصَهم إلى أن يكون حين،
أستطيع فيه مواصلة العيش والبقاء !
وإمّا موتي واقفة،
أدفع بصدري هوس الرَّصاص.
صَرَخْتُ بغضبٍ وخوفٍ مِمّا قد يجيء في كلِّ لحظة :
مجنونة !
ولُذْتُ بالفرار حالًا، تلاحقني نارُ بنادق الجنود. وبتُّ، كما لا أزال أذكُرُ، أركضُ في عَجالة الأرْنَبِ الخائف مِما قد يحدُثُ في ذاك النهار، وبعد قليل بتُّ أشعرُ أنَّني سرعان ما سأصل إلى أعلى طريق اللَّيّات الواقعة بين البروة ومجد الكُروم مُقتَرِبا من قريتي البعنة ودير الأسد، هدَفَي رحيلي وبعد قليل من الوقتِ وصلتُ البعنة والتقيتُ زوجتي الثانية وأولادها الصغار الثلاثة ـ أنتم ـ فازددْتُ اطمئنانًا مريحُا.
وبعد بضعة أيام وصل الجنود الغُزاة واقتحموا قريتي البعنة ودير الأسد وبدأوا يأمرون الأهالي والناس اللاجِئين بالتجمع بين القريتين ليعرفوا مصيرهم.
وفيما كُنّا، عائلتي وأنا ـ زوجتي الثانية تحمل طفلنا الأصغر، ابنتي من الزوجة الأولى، وطفلَيَ الآخريْنِ الصَّغيرين ـ، وفيما كُنا نمشي في اتجاهِ الموقع الذي سنجتمِعُ بِهِ، اعترض جنديٌّ شابٌ، أشقر البشرة، طريقنا، قالَ مُتَسائِلًا بلهْجَةٍ عَرَبيَّةٍ مُشَوَّهَةٍ وقد صَوَّبَ بُنْدُقِيَّتَهُ إلى رأسي، سألَ :
أيْنَ سلاحُكُم ؟
أذكُرُ أنَّكُمْ عندها انْفَجَرْتُمْ في البكاء، خوفًا غَريزِيًّا، وفورًا أقسمت زوجتي، قائِلةً :
والله لا نحمِلُ غير ما يستر جلودنا من ثياب !
كِدْتُ أفقع ضحكا، لكن جَدِّيَةَ الوضعِ وخُطورَتَهُ منعاني من الضحك واكتَفَيْتُ بترداد قسمِ الزَّوجة. لكن عن غير قصد وجدتني أنبِشُ جيبي، فكشفتُ عن ساعة جَيْبٍ كُنتُ أحملها !
سألَ الجُنْدِيُّ، ثانيةً، وقد خَفَّضَ بندُقِيَّتَهُ قليلًا :
من أينَ لك هذه الساعة ؟
وما حاجتها إليك ؟
لقد توقَّفَتِ اليوم ساعتكم وأوقفتَ أنتَ وناسُكَ !
ولا يتحرك شيءٌ إلّا بمشيئتنا !!!
انتزع الجندي الساعة بقوة من جيْبي، وقال :
هذهِ باتَتْ ساعتنا، بريطانية الصنع، وقد أورثتنا بريطانيا كُلَّ ما كان لها وما لم يكُنْ...
قالَ الجُندِيُّ :
لن تستطيع، يومًا،
الادِّعاءَ أنّا أخذناها منكَ،
كانت لك مثل بيتِكَ وصارت لنا...
وتمتم الجندي بضع كلمات بلغته، تمتمها هامِسًا، أحسبه اليوم كان يتلو صلاةً تبرِّرُ كّلِماتها فعلهُ !
وفاجأني الجندِيُّ لحظتَها حين صفعني بقوة، نهرَني ونهَرَ الزوجة والأولاد وبدأ يصرخ بصوتٍ عالٍ :
ارحلوا شِمالًا إلى لبنان أو شرقا إلى سوريا ولن تعودوا !!!
أكَّد شيخ مطيع لِأولاده بوجع شديد أنَّ أكثر ما أحزنه، يومها،أنه فقد ساعته وبعدَها فقد كُلَّ ما كان له، عملًا، أرضًا ـ بيتا ووطنا !
***
استغرب الشيخ مطيع وكان يتحدَّثُ لأبنائه الثلاثة وزوجته الثانية، ذات مَرَّةٍ حين بدأَ يقترب من عامه الثمانين وكان يتأمَّلُ مسار حياته ومسارَ حَياة ناسِهِ منذُ سنين طويلة حقًّا، استغرب ما كان ناسُهُ قديمًا ولم يتغيّروا اليوم ولن يتغيَّروا، ذاتَ يَوْمِ آتٍ لا شكَّ، ما لم يُغَيِّروا ما بأنفسهم عملا، عقلًا وتساؤلًا.
عِندَ الحديثِ ذاكَ الزمن، الذي ابتدأ فيه سِنَّ الشيخوخة المُتْعِبَة والموجِعة، تذَكَّرَ ما كان معه ذاتَ يومٍ في أوائل الخمسينات بعد بدء الرَّحيل والترحيل، فكشف لأبنائِهِ أنَّ المَدْعو عبد القادر بن أحمد المهزوم كان قبل وفاته، كما كان يُشاعُ، يعملُ مثل عرب كثيرين في خدمة مُنَظَّمَةِ الكيرين كييمت الصهيونية العنصرية. وهي المنَظَّمة التي أنشأتها الحركة الصهيونية في أوروبا الغربية وفي الولايات المُتَّحدة وقد عملت منذ نشأتها قبل أكثر من مئة سنة بمختلف الوسائل، الخداعات والعُنف للسيطرة على ما كان ولا يزال في هذا الوطن من أرضٍ، فرصِ عملٍ وخيرات اقتصادٍ وباتت من أنشط المنظمات الغربية في تنفيذ هدف تمزيق وحدة المنطقة من العراق شرقا وإلى المغرب في غرب الشمال الإفريقي، من سوريا في الشمال وإلى السودان في الجنوب .
تَوَقَّف الشيخ مطيع عن الكلام قليلًا....
ثُمَّ كَشَفَ لهم أنّ عبد القادر المهزوم هو من قرية جليلية مُهًجَّرة وهوَ بنُ شيخ دين وقد وصل هو وابوه مِثْلَنا ومثل مُهَجَّرينَ آخرين إلى قرية وعرة الزيتون الجليلية.
قال الشيخ بعدَ لَحظَةِ صمت :
جاء المدعو عبد القادر المهزوم حينها ذات مساء، وكان وصل إلى القرية التي وصلنا إليها مع مُشَرَّدين كثيرين من قراهم في عام النكبة، وكشف لي أنَّ مسؤول العمل،عمله في حيفا،طلب مِنه أن يَزورَني ذات عَصْر وبعد العودة إلى البيت ليَعرِضَ عليَّ قبول صفقة بيع الأرْضِ، أرضِ عائلة زوجَتي في قرية سمخ القريبة من بحيرة طبريا قبل مصادرتها نهائيًّا لِتَصيرَ أرض الدولة الجديدة وناسها الآتين من الغرب الشمالي القريب والبعيد !
قلتُ حالًا وبلهجةٍ واثقةٍ لا مًجَرَّدَ غاضبة :
سمخ مسقطُ رأس زوجتي الثانية، أي وطنها، وبتُ أتمنّى دائمًا، لو تبقى جزءً من الوطن فلسطين وتبقى وطنَ عائلتي جزائِرِيَّةِ، تونسِيَّةِ وسوريةِ الأصول !
سمخ جزءٌ من وطن أمَّتي الواسع منذ آلاف السنين، وكل ما كان فيها ولايزالُ، ولو في الذاكِرة التي لا تموت، هو وطن. ليس من حقي بيعه، فالوطن وما كان فيه لا يباع، العنف قد يفلح في السطو على الوطن، لكن العنف لن يُغيِّرَ ويُلغي حقائق ما كان !
أرجوك، لا تأتِ لزيارتي لهذا الغرض !
عندها قام المهزوم بالعوة إلى بيته هامسًا :
الأرض ستُصادَرُ
وخرج مُكَشِّرًا عابِسًا !
أكَّدَ الشيخ استغرابه لما حدث يومها وتساءل :
ما قيمة بقائنا لاجئين في وطننا لحظة يكثر أمثال عبد القادر المهزوم بيننا في هذا الوطن المسروق والمهزوم، حَقيقةً، ونجِدُهُم في أكثر من قرية وأكثرَ من بيئة ؟
التزم الشيخ مطيع عندها الصمت وتأمل أبناءه مُتسائلًا :
ما قيمة بقائنا في هذا الجُزْءِ من الوطن ... ؟
ما لم نَبْدأ بطرح الأسئلة عَمّا كُنّا فيه، ما بِتنا وصِرْنا، اندَفعْنا ودُفِعْنا إليه بَعْدَ هذا الغزو وأكثر من غزو... ؟
وما لَمْ نبْدَأ نُشْغِلُ ما فينا من عَقلٍ شِبْهِ بِدْئيٍّ، واسِعِ التَّخَلُّفِ ونادِرِ المعرِفَة،
لِنَبْدَأ البحث حقيقةً عن تجْرِبَةِ مسارِ حياتنا،
فنبدأ الخلاصَ مِمّا نَحْنُ فيه وخلاصَ إنسانِيَّتِنا مِمّا هِيَ فيه.... ؟
لحظتها،
رأى الأولاد والزوجة أنَّ الشيخ مُطيع بدأ الانكماشَ على ذاته والتزم الصَّمْتَ حالًا وبدأ لحظاتِ قشعريرةٍ راجِفَةٍ وموجِعَة، أغلقَ عَينيه، فلم يَعُدْ يَتَأمَّلُ مسارَ حياته، وبدأ رأسُهُ في الانحِناءِ إلى الوَراءِ قليلًا !
عِنْدَها تَحَرَّكَ الأولادُ سريعَا، خوفًا من سُقوطِه المفاجئ من السرير الخشبيِّ الجالس عليه، وساعدوهُ في الانحناءِ والنومِ على السرير، لكن سَرعان ما لاحظوا أن قلبَ أبيهم لم يَكِفَّ لحظتها عن النبض وجسَدَهُ النائم عن الدِّفء الواعِدَيْن،
فاطْمَأنّوا قليلًا وعادوا إلى الجلوس قريبين منه.
***
استَغْرَبَ سَعيد بْنُ الشَّيْخْ مُطيع الأوراسِي الذي أفْلِتَ هُناكَ مِنْ زمَنٍ
بَعيدٍ قريبٍ، أفْلِتَ مِنْ عَتْمَة رَحْمِ أمِّهِ وكَبُرَ سِنًّا قليلًا في تلك البيئة الطبيعية الاجتِماعية، قَبْلَ الرَّحيل الموجع من الجزائر إلى بَرِّ الشام
سوريّا أوَّلًا وفلِسْطين فيما بعد.
تأمَّلَ سَعيد مَسارَ حياته ومسارَ حَياةِ أبيه، الذي ارتحَل قبلَ زمَنٍ قريبٍ
بعيد، وكان يُدْرِكُ أنَّ أكثَرَ ما يعنيه ليسَ المسار الشَّخْصي هوَ ما أرادَ تأمُّلَه إنَّما الرَّبْط بيْنَ هذا المَسار وبَعْضَ مَساراتِ ناسِنا وعالَمِنا مُنْذُ القديم القديم بِمَدى ما عرف وفَهِم ذلك،
لاحَظَ أنَّ أباه بَعْدَ وِلادَتٍهِ وحينَ تَقَدَّمَ عُمرًا قَليلا، بَدأ يَرْعى بَقَرَ العائِلَة
بِصُحْبَة أبيهِ، جَدِّ سعيد.
تَذَكَّرَ عندَها أنَّ مَكانَ انفِلاتَ أبيه لا يَخْتلفُ كثيرا عن المكان الذي بدأ ابنُهُ
فيه المَشْيَ جريًا راكِضًا بِصُحْبَةِ صاحبٍ راعٍ شابٍ، كانَ ابنَ صَفَّيْهِ
الثاني والثالِثِ ذاتَ يوم في سَنَوات طفولته.
***
اندَهَشَ ذات يوم وكانَ في طَريقِهِ لِلْخُروجِ مِنَ البَيْتِ إلى حاكورة الوعرة،
المُجاوِرَة فسرعان ما لفَتَتْه، لَفَتَتْ عَينَيْه المِرْآة المُعَلَّقة على الحائِطِ الْجانِبِيِّ
عِنْد البابِ الخارِجي فبَدَءَ
يَصيحُ ضاحِكًا باكِيًا :
يا بابا !!!
وسألَ المِرْآةَ باستِغرابٍ مُفْرحٍ، أتبَعَهُ بِسؤالِ نفْسِهِ المُنْدَهِشَة :
أيَّةُ صورَةٍ هذِهِ ؟ هذا أبي أم أنا ؟ أهْوَ أنا أم أبي ؟
صاحَ هامِسًا :
الله كَيْفَ هِيَ الحَياة ؟
يولَدُ واحِدُنا حَفيدًا وسَرْعانَ ما يرْحَلُ الجدُّ والجَدَّة ويصير هو وَلَدًا
ويبْدَأ يكبُرُ قَليلًا، يَجِدُ شَريكةَ حَياةٍ، يَبْدآنِ حياةَ عائِلَة وَيَصيرانِ أبا
وأمّا، ويصيرُ وَلَدُهُما أوْ بنتُهُما حفيدًا وَحَفيدةً، حَفيديِّ وحَفيدَتَيِّ الجِدِّ
والجَدَّة.
تذَكَّرَ لَحْظَتَها ما قرَأ ذاتَ يوم مِمَّنْ اعتَبَرَهُ أحَدَ مُعَلِّميه القدامى وصَحْبهِ
الدّائِمين، أبو العلاء السوري، الذي هتف مُغَرِّدًا ذاتَ زَمَنٍ :
نَزولُ كَما زالَ آباءُنا
ويَبَقى الزَّمانُ كَما قَدْ نرى
نَهارٌ يُضئُ وليلُ يَجيْ
ونَجْمٌ يَغورُ وَنَجْمٌ يُرى
فالزَّوالُ هُوَ الموتُ والزمان دائم التَّجَدُّدِ هو الحياة،واللَيْلُ هو عَتمَةُ اللَّحْدِ
، الذي تَحَدَّثَ عنهُ ذاتَ يَوْمٍ في القرنِ الماضي شاعرٌ يونانِيٌّ من جزيرة كريت وكان صار مُعَلّي وصاحب بعض فهمي ، أما النَّهارُ فَهْوَ الحياة دائِمَةُ التَّجَدُّد.
وكانت أمُّه تَتَحَدَّثُ مَعَه دَوْمًا بَعْدَ وِلادَةِ أكثرَ مِنْ حفيدٍ وحفيدة، أولادِهِ
وأولاد وبنات أخويه أسعد ومَسْعود، فكانت تقول ما قالتْهُ جدّاتٌ كثيرات
وقاله أجدادٌ كثيرون :
ما أغلى مْنِ الولد إلّا وَلَدِ الوَلَدْ...
قالَ سَعيد لنَفْسِهِ ما قاله أكثر الجَدات والأجداد بِبَساطِة فَهْمٍ وتَجْرِبة أن
هذا القَوْل يؤكِّدُ ما عَلَّمَتْهُ الحياة ويجْدُرُ بإنسانِنا أنْ يَعيهِ حقًّا، فأجملَ
ما في الحَياةِ هو تَجَدُّدُها الدّائِم ويَنْفَعُ هذا التَّجَدُّدُ حين يكون تَجَدُّدَ عَقْلٍ
فَهْمًا، عَمَلًا وأسئِلَةً.
وَتَذكَّرَ أكثَرَ أغنِيَةً، بَدأ يَسْمَعُها حين تقدَّمَ سِنُّهُ في مَرْحَلَةِ الدراسَة
الثانوِيَّة وما زالَ يُغَنيها ويَحكي عنها لأِكثر من صاحِبٍ وزميل
حَياةِ طفولةٍ شائِخَة.
تَقولُ بِدايَةُ الأغنية، التي كان أوَّلُ مَنْ غَنّاها ناسُ مِنْ ساكِني بَلَد القممِ
الجارة في الشِّمالِ المُرْتَبَطِ بِجَليلهِ طبيعِيًّا واجتِماعِيًّا، تقول الأغْنية :
قَدّيش كُنّا نْروح صوب جْبالْنا
نِسْرَحْ في الوِدْيانْ هادي بالْنا
عَلى نَغْمِةِ الشلّال ما بَيْنِ الصُّخور
قَديشْ غنّى الطيرْ عَمَوّالْنا
تَذَكَّر سَعيد أنَ والِدَهُ كانَ مَحْظوظَ الطُّفولة، فكانَ يَسْرَحُ راعِيًا طِفْلًا
صغيرا بَصُحْبَةِ أبيه، جِدِّ سَعيد، بيْنَ المُرْتَفعات المُطِلَّة على بيتِ أهلِهِ
الغافية عندَ ضِفافِ وادي مَجرَدَة في شرق الجَزائر، فَكانَ هادِئَ البال
وانزعَجَ بالُهُ لَحْظَةَ بَدَأ يَكْبُرُ قليلًا ويُدْرِكُ حقيقةَ ما كانت فيهِ الجزائر
وباتت فيه فلسطين وسوريّا.
لاحَظَ سَعيد، حينَ بَدأ يتأمَّل الأغنيَةَ وما قد تَعنيه أنَّ حَياةَ الرِّعْيان
والمُزارعين في الوديان والجبال وما فيها من سُقوطِ ماءٍ بين الصُّخور
هِيَ قِمَّةُ هُدوءِ البال والرّاحَة النَّفْسِيَّة الإنْسانِيَّة وَ قَدْ تَمَنّى لَو أنَّ ناسًا
كَثيرين بَدَأوا يَبْحَثونَ عَنْ هذا الهُدوء فيَعودونَ إلى سَرَحانِ عَقْل
وحَياة بَيْنَ تَجَلِّياتِ أجمَل ما في بيئاتِنا الطبيعية.
وكانَ سعيد تَعَلَّم كثيرًا ذاتَ يوم وذات زَمنٍ وَازْدادَ إدراكا وثِقَةً بازدِيادِ
فهمِه لَبَعْضِ حقائق حَياة وأكثر ما تَعَلَّمه وازداد قناعةً بَهِ أن أخطَرَ ما بدأ
الإنسان يَعيشُهُ هُوَ نَشأةُ بيئة المِلْكِيَّة الخاصة وسَيْطرة الابن أزعر العائلة
وأشَدِّها عُنْفًا وأكثرِها طَمَعًا.
مِنْ يومِها نَشأت فئةُ أقوياءٍ وهم قِلَّةٌ عَدَدًا أقربَ إلى الأفراد في كُلِّ بيئةٍ
حَياتِيَّة واجتِماعِيَّة ومَجْموعات الضعفاء والفقراء وهم الأكثرية وأكثرهم
سَرْعان ما استَحالوا عبيدًا في البِدْء وأقنانًا حتى قبل قليل.
وَقامَتْ هذه الفِئَة المُهيمِنَة بتدْميرِ طَبيعة عالَمِنا وتشويه طبيعته وما فيه
من تَجَليات حياة.
وكان سعيد انْدَهَشَ بما قاله وكتبه مُفَكِّرٌ عاشَ قَبْلَ قُرونٍ في فرنسا وبات
واحِدًا مِنْ مُفَكريها اسمُهُ جان جاك روسو، قال :
" إنَّ الطَّبيعةَ خَيْرٌ والمَدينةَ شَرٌّ والقانونُ هو مِنِ اختِراعِ الأقْوِياء مِنَ الرِّجال لِيُقَيِّدوا ويَحْكُموا الضُّعَفاء منهم "
عندَها تَذَكَّرَ كثيرًا ما كان معه في آخر العُمْر،
فَكانَ يَخْرُج يَومِيًّا إلى ما تبَقّى له ولزوجَتِهِ مِن حاكورةٍ عند طرفِ قريةِ وَعْرَةِ الزَّيتون الجليلية، التي وصلَها، ذاتَ يَوْمٍ مُهَجَّرًا بِصُحْبَةِ عائلَتِهِ قبل أكثر من سَبْعين عامًا، اشتَرَياها، زوجَتُهُ وَهْوَ، من عائلةٍ جارَةٍ سَكنا يومَها قريبَا منها.
وَقَدْ أذْهَلَه ما باتَتْ تلْكَ العائلة الجارة وباتَهُ أولادُها الأرْبَعَة بعدَ وَفاةِ أمِّهِمْ
الشَّيْخَة العَجوز.
كانَ سعيد لَحْظَة يَخرُجُ مِنْ بابِ الخروج إلى الحاكورة يَتَأمَّلُ المِرْآةَ المُعَلَّقة قُرْبَ البابِ، يَتأمَّلُ شَعْرَهُ وقَدْ بَدَءَ يَزْداد شَيْبُهُ بياضًا أغبَرَ...
ابراهيم مالك كاتب وشاعر فلسطيني جزائري الأصول