4 قصص للكاتب ناجي ظاهر من الناصرة

الامتحان العظيم
ها نحن نصل النهاية. المشوار كان قصيرًا لكن صعبًا جدًا. منذ بداية لقائنا الاول هناك وراء النخيل وفي أحضان الزهور، كنت عارفًا اننا سنفترق، ويخيل إلي أنك أنت أيضًا كنت تعرفين ما عرفته في حينها، ومع هذا تابعنا طريقنا وكأننا مسحوران مبهوران بجمالية الطريق وغير مصدّقين ما حدث.. فالتقينا. إنني الآن.. في هذه اللحظة الصعبة الحاسمة.. أعود إلى تلك اللحظة الفريدة في حياتي، فأراني أرفع راسي لأراك تطلين بوجهك السموح الجميل.. كنت تطلّين من هناك من وراء النخيل العربي ناعس العينين، وكنتُ متجمّدًا كي لا تفرّي كما تفعل الحمائم الملونة الجميلة حين تشعر بنا وقد اقتربنا منها حدّ ملامستنا ريشها الساحر. منذ اللحظة الاولى لإطلالتك تلك شعرت أن أمرًا كبيرًا متوقعًا حدث، وأن نسمةً رخيةً هبّت أخيرًا على قفاري الخالية.. لتحقّق لي حُلمًا طال انتظاري له. ربما ما زلت تذكرين كيف أنني بقيت بعيدًا.. كي أقترب أكثر. حتى وقعت تلك الحادثة اللطيفة بين كلبك الصغير وكلب آخر كبير.. وقف صاحبُه الشاب قريبًا منه.. حينها كان لا بُدّ من التدخل، فتدخلت على اعتبارٍ مُضمرٍ هو أنني واحد من أبناء اسرتك، وعندما فضضنا النزاع بين الكلبين، سألتني وأنت تُزمعين الانطلاق في فضائك:
-الحمد لله انها جاءت سليمة.
وشكرتني، قائلة:
-لقد رأيت ذلك الثقيل وهو يحرّض كلبَه على كلبي.. كانت تلك محاولة ساذجة منه للتحرّش بي.. على كلٍّ اشكرك على تخليصك لي من موقف صعب.
قلتِ هذه الكلمات وأنتِ تواصلين محاولتك المضي.. إلا أنني استوقفتك:
-أنت من هنا؟.. فرددت:
-أنا في زيارة لأقارب لي هنا.. لا أعرف ما أذا كانت ستطول أم تقصر.
رجوت لك حينها كلَّ خير وتركتك تمضين في طريقك، تاركًا لك أن تقرّري ما إذا كان يروقك أن تعودي إلى ذلك المكان ذاته، بين النخيل وحضن الزهر، وتعمّدتُ في اليوم التالي أن أكون في نفس الساعة، ونفس المكان، فإذا ما أتيت أيقنت أن تلك إشارة منك لتقبُّل علاقة ناشئة قد تتفتّح وتزدهر وتطرح ورودًا يتضوّع شذاها في الاجواء. تفحّصت حينها ساعتي اليدوية، كانت تشير إلى الوقت ذاته.. الخامسة مساء، وعندما أرسلت نظري إلى هناك إلى حيث توقعت وفودك بصحبة كلبك المرافق، رأيت طرف ثوبك. زارت الابتسامة حينها وجهي المترقّب المتنظّر، ومرّت الثواني بطيئةً ثقيلة لاكتشف أن تلك المارّة العابرة ليست أنت وإنما هي ترتدي ثوبًا يشبه ثوبك.. لقد تكرّر ما حصل مع تلك العابرة مع شابتين آخريين، كانت كل منهما ترتدي.. سبحان الله.. ثوبًا مماثلًا لثوبك. عندها تساءلت هل تعمّدت أن تشعلي نار انتظاري بثلاث صبايا من قريباتك؟ فنسجتِ ذلك الموقف المثير؟.. لقد بقي تساؤلي هذا مجرّد سؤال ولم أطلب إجابة عليه حتى أطللت بطلعتك البهيّة الساحرة.
تقدمّتِ مني حينها:
-أما زلت مكانك هنا منذ الامس؟
هززت رأسي:
-غريب.
فتحت عينيك على أوسع ما يمكنك:
-ما الغريب.. الله يستر.
-ثلاث صبايا يَمررن مِن هنا يرتدين ثيابًا تكاد تكون واحدة.
يومها ضحكت. وشاركتُك الضحك. وكأنما نحن اتفقنا على أن نمضي في طريق النخيل والزهر. فهمت هذا وأنا استرق النظر إليك خلال مداعبتي كلبَك. كنت حينها تفيضين سرورًا وحبورًا، الامر الذي شجّعني على التمادي في مداعبة كلبك الحبّوب.
التقينا يومها مرتين أخريين في طريق النخيل. وكنا مصممين على آن يتم اللقاء في المكان والساعة ذاتهما، إلى أن وقعت حادثة سيكون لها تأثيرُها على رؤيتي لمسار الفرح الجاري بيننا. يومها سألتني عمّا إذا كان في تلك المنطقة حانوت لبيع مأكولات الكلاب، فحملت نفسي وانطلقت دون أن تطلبي مني.. ملوحًا لك بيدي ومنطلقا في طلب ما أردته. غبت لحظات حاولت أن أجعلها قصيرة إلى أقصى الحدود، لأكسب أطول وقت معك وفي رفقتك، غير أن ما حدث حين عدت بعدها، كان مثيرًا وأكاد أقول مقزّزًا لي. فقد رأيت كلبك يلعب مع كلب ذلك الثقيل، ورأيته هو يستلقي على الاعشاب النابتة للتوّ هناك بالقرب منك، مُعربًا عن رضاه بما يحدث، وقد تبّلتِها حينها عندما تناولتِ ما جلبته إليك من غذاء الكلاب، ورميت ببعضه لكل من الكلبين.. كلبك وكلب ذلك الثقيل. عندها افتعلت عدم الاهتمام وقلبي يكاد يحترق غيظًا، وعلى طرف لساني سؤال قلق.. هل يختلف أصحاب الكلاب ويتفقون بتلك السهولة؟ لقد تصنّعت عدم المبالاة، وانضممت إليك مبتسمًا، بل إنني بالغت بثقتي بنفسي عندما قدّمت بنفسي المزيد من الغذاء لذلك الكلب المسعور. أعترف أنك كنتِ ذكية عندما طلبت مني أن نبتعد عن ذلك المكان، بل أعترف أكثر من هذا أن ذلك الغرّ الثقيل صاحب الكلب، عندما شعر أننا سنغادر المكان، انصرف مبتعدًا عنّا. قد تقولين إن ابتعاده ذاك جاء مصادفة مثلما تتالت المصادفات فيما بيننا، إلا أن ما حدث أشعل الضوء الاحمر في عيني، وجعلني أتساءل هل يوجد هناك ما لا أعرفه بينك وبين ذلك الثقيل، وإذا كان الامر ذلك، لماذا أدخلتني بينكما؟ حملت هذه الاسئلة بعد انتهاء لقائنا ذاك وولّيت حاملًا إياها إلى غرفتي المنعزلة الوحيدة، وخطر لي خلال استعادتي لكلّ ما حصل أنك إنما أردت استثارتي بذلك الموقف البايخ، ووضعي في امتحان صعب، فإذا نجحت استمرت العلاقة الناشئة بيننا، وإذا أخفقت تكونين قد حميت نفسك من غازٍ هُمامٍ عنيد. باختصار فهمت أنك إنما أردت أن تكتشفي عمق مشاعري تجاهك. عندما توصّلتُ إلى هذا الحد من التفكير.. قرّرتُ ان أدخلَ اللعبة معك.. وأن اقلبَ الادوار.
بعد سبعة لقاءات.. وكان هذا الاخير قريبًا جدًا من عودتك إلى بلدك البعيد، طلبت من ثلاث صبايا قريبات لي، أن يرتدين ثيابًا متماثلة في القصّة واللون، وأن يفدن إلى حيث نجلس، أنت وأنا في طريق النخيل، وحدّدت لهن الساعة الخامسة مساء، وكانت المفاجأة يوم أطلّت الاولى فدعوتها للجلوس معنا، وكذلك فعلت مع الثانية والثالثة. لقد أتقنتِ حينها حضرتك الدور، فاندمجت في أحاديثك معهن، بل أكثر من هذا شعرت أنك عثرت على صديقات لك في تلك البلدة، بدليل أنك قررت تأجيل عودتك إلى بلدتك. لقد نجحت خطتي يومها حتى النهاية، فما أن انصرفت ضيفاتُنا العزيزات تاركاتٍ لنا المجال للاستمتاع بمواصلة اللقاء.. حتى اعترفتِ لي بأنك أخطأت في تصرفاتك المثيرة للشك معي.. وأن اللعبة انتهت على خير.. وأكدتِ لي أنك ابتدأت ترتاحين إلي أكثر فأكثر.. في تلك اللحظة شعرت للأسف بحزن شديد يشدّني إليه.. فقد اكتشفت أنني كنت معك تلك الفترة القصيرة في مسافتها الغنية في مضمونها.. موضوعًا لامتحان صعب.. وليس لعشق وحب.
ــ القصة الثانية
بطل من زمننا
جمع صخر العدوان في اسمه ما بين اسمين، يكمل احدهما الآخر ويعزّزه ايضًا، وكنا نرى فيه اسمًا على مسمى، فقد قسا علينا، نحن ابناء حارته، واحدًا تلو الآخر، ولم يوفر أيًا منا ليوم كريهة وسداد ثأر. كأنما هو يقتصُ منا.. وينزل فينا عقابًا كان يفترض ان ينزله بقتلة والده قبل ولادته بأشهر، الامر الذي دفع احد ساخرينا إلى القول: " مقدرش على الجمل دق بالبُردعة". أما أنا فقد راقبته منذ بداياته أيام أراد أن يكون شاعرًا مفلّقًا، وأصدر مجموعة من الشعر دلّت على موهبة متدفقة، وعلى قدرة معجزة في الاغتراف من بحر الشعر، وليس النحت من صخره، وقد كنت معجبًا به آنذاك.. كل الاعجاب، فرُحتُ اكيلُ له المديحَ على الطالع والنازل، ما حبّب الكثيرين من أبناء حارتنا به ودفعهم لأن يخطبوا ودّه.. وحتى حينما وقع الحادث الاكبر في حياته، ذلك الحادث الذي بقي متحفظًا عليه.. كما يتحفّظ الموجوع على دُمّله، بقيت واقفًا معه.. وإلى جانبه، أما عندما انقلب من العدوان الركيّض، إلى عدوان الاعتداء، فقد كان لا بد لي من توجيه السؤال الخالد إليه: لماذا؟، فبرر عدوانيته المستجدة.. بقوله إنها كانت ملجأه الوحيد للمضي في رحلة الحياة الصعبة، وإنه إنما أراد بها أن يُعلّم الحياة درسًا لا تنساه، مضيفًا ان الحياة هي الناس، الاخصام والاحباب أيضًا.
بعد ذلك الحادث الذي تكتم عليه صخر حتى أيامه الاخيرة في الحياة، لم يعد هو.. هو وإن كنا بقينا نحن، أنا على الاقل، أنا.. أنا، وكان سبب بقائي على ما أنا عليه، هو إيماني المطلق به وبرسالته الشاعرية، غير أن ما حصل فيما بعد، هو أن طرقنا اختلفت وتصالبت مع بعضها بعضًا، وقد جاءت النتيجة على النحو التالي، هو ترك عبادة ربة الشعر هاجرًا إياها إلى ربة المال، وأنا بقيت على حبي للربّة الاولى، الامر الذي دفعه لأن يُعيد.. وأن يكرر وصفي بـ الابله. وقد تقبلت وصفه ذاك، لمحبة تأصلت في نفسي تجاه ابطالنا المُهجّرين أولًا وتجاه ابنائهم الميامين.. وهو منهم ثانيًا.
للحقيقة أقول إن صخرًا كان عنيدًا وطموحًا أيضًا، في كل ما يقوم به ويمارسه من أفعال، وهو لم يكن يؤمن كثيرًا بالأقوال، وكان يراها بضاعة الخائبين، أمثالي، لذا عندما انتقل من عبادة الشعر إلى عبادة المال، كان دائم السعي والتنقيب عن المصادر المترخنة الغنية بالأموال، فتنقّل من عمل إلى آخر.. ومن منصب حسّاس.. دسم إلى آخر، وكان أن توصل في فترات حياته الأخيرة، بحنكته وتخطيطه المحكم، لتولي ادارة مؤسسة ثقافية ذات قيمة وشيمة، وذلك بعد حكاية تروى، فقد تم تعيينه خلال، وبعد ندوة أقامتها تلك المؤسسة وحضرها مستخدموها جميعهم تقريبًا، ومما نُمّي إلي أقول: إنه ما أن انتهى رئيس المؤسسة من طرح وجهة نظره القائلة بأن على الجميع أن ينصاعوا لأوامره، إذا ما أرادوا وضعًا أفضل لهم وللمؤسسة، موضّحًا أن السفينة إنما تُقاد بهمّة ربانٍ واحد فقط، وأن الطبخة إذا ما كثُر طباخوها شاطت، حتى انطلقت تذمرات مستخدمي المؤسسة الرافضة لمنطق، لا يرى أي منطق سوى منطقه الخاص سليمًا، ويبدو أن صخرًا رآها فرصة سانحة، فراح يكيل المديح للرئيس.. ولما فاض به لسانه من حكم تشبه الدرر، بل إنه تمادى في موقفه ذاك، فراح ينتقد المنتقدين داعمًا رأيه بأهمية نقد النقد.. منطق صخر ذاك أعجب رئيس المؤسسة، فما كان منه إلا أن أشار إليه بهزة من رأسه، طالبًا إليه أن يتبعه بعد انفضاض الاجتماع إلى غرفته في أعماق المؤسسة.
بسرعة التوافق بين الطيور المتجانسة، تمّ الاتفاق على أن يتولّى صخر، ابتداء من اللحظة، بل من الآن، منصب مدير المؤسسة، فالثقافة تحتاج إلى مَن يصونها ويرعاها، وليس إلى مَن يُميّعها.. كما اتفق الاثنان، الرئيس وصخر. في اليوم ذاته تولّى صخر منصبه، حمل حقيبته الديبلومات، وتوقّف في أعلى مرتفع في المؤسسة مُراقبًا كل ما يحدث فيها، وكان أن أجرى لقاءات تعارف أولية بينه وبين موظفيه، بهدف اعطاء كل ذي حق حقه وتوكيل الانسان المناسب بالمهمة المناسبة.
أجرى المقابلات مع موظفيه واحدًا تلو الآخر، وعندما توقف قبالته الموظف الثالث، ادرك انه عثر على بغيته، فطلب منه أن يقترب منه وهمس في أذنه قائلًا له إنه وقع الاختيار عليه ليكون الساعد الأيمن له في مراقبة ما يدور في المؤسسة، من أجل نجاعة أكثر في أدائها. انتهى الاجتماع بين المدير الجديد وبين مستخدميه الجُدد في المؤسسة، ليتفرق كل عائدًا إلى مكتبه وعمله.
في اليوم التالي، وهذا ما عرفته من ذاك الموظف "العَين" ذاته، بعد حكاية سأؤجل سردها قليلًا، جاءه هذا الموظف بخبر مفاده أن هناك تذمرًا جديًا بين الموظفين بسبب تجاوز رئيسهم لهم وجلبَ شخصٍ من خارج المؤسسة ليكون مديرًا عليهم، وأشار إلى موظف مشاكس عُرف بالرفض وعدم القبول للكثير من الاوامر. هزّ صخر رأسه علامة على أن حَبَّ الموظف المقصود وصل لحظة الطحن، فوضعه تحت المجهر طوال أربع وعشرين ساعة ليدعوه فيما بعد، انت قمت بالكثير من التقصيرات في عملك خلال الاشهر الماضية، لذا فإنني أسلمك كتاب الفصل. بإمكانك التوجه إلى محاسب المؤسسة لتقاضي أجرتك واتعابك مع حبّة مسك. وعبثًا حاول الموظف استعطافه، متوسلًا إليه بأنه أب لخمسة اطفال ويحتاجون للكثير من أجل إعالته لهم، فقد اصم اذنيه، فما كان من هذا الموظف إلا أن توجّه إلى رئيس المؤسسة طالبًا منه إعادة النظر في فصله المباغت من العمل، وقد عرفت مما نمي إلي، أن الرئيس فتح ملف الفصل عن العمل، ليتأكد من أنه عثر على المدير المناسب، وليواصل رفضه لإعادة النظر المطلوبة في فصله عن عمله. وعندما دخل صخر غرفة رئيس المؤسسة.. وقع ما كان يتوقعه، لقد قررنا رفع درجتك، لتكون مساعدًا اوليًا لي. لكن كيف سنملأ الفراغ الذي خلفه ذاك الموظف الكبير؟ ابتسم صخر وهو يرسل نحو رئيسه ابتسامة ذات الف معنى ومعنى.. أترك هذا علي.. في اليوم التالي كان صخر قد ملأ الفراغ بأحد اتباعه الراضخين له.. على طول المدى.
القصة الثالثة
سوء تفاهم
تسلّل إلى غرفة مكتبي في المؤسسة على رؤوس أصابعه، حتى أنني بالكاد رأيته وهو يدخل. انفعلت لدخوله المباغت هذا، وازمعت أن أنبهه إلى أنه كان عليه أن يتنحنح أو يفتعل أية حركة تشعرني أنه دخل.. غير أنني ما لبثت أن انصرفت عن هذا التنبيه، وأرسلت نظرة مستطلعة إليه، تساءلت عيناي، عن سبب دخوله المفاجئ ذاك، وقبل أن توضّحا تساؤلهما.. قال ناظرًا إلى مكان آخر في الغرفة وموجهًا حديثه إليه:
-مع أي شركة تلفونات تتعامل؟
أرسلت نظري إلى حيث حطّت عيناه رحالهما. لم أر أحدًا هناك. فهمت أنه إنما يوجّه حديثه إليه. تمعنت فيه:
-لماذا تسألني. سألته فتجاهل سؤالي وكرّر سؤاله السابق:
- مع أي شركة تلفون تتعامل؟
بقيت صامتًا.. لم أغادره، فعاد يسألني عن مقدمة تلفوني، ليعرف.. كما بدا فيما بعد.. الشركة التي أتعامل معها. تردّدت في أن أذكر له مقدمة نمرة تلفوني، جرّاء تجربة سابقة مشابهة دفعت ثمنها أكثر من نصف ساعة من انتظار سائلي السابق. لكن يبدو أنه اعتقد أنني لا أفهم عليه، فسألني محدّدًا مقدمة النمرة. وعندما ذكرت له انها (0505)، انفرجت أساريره، نعم نعم تلفونك مناسب جدًا. وراح يشرح لي أنه حاول منذ ساعات الصباح الباكرة الاتصال بمن يقيم في منطقة أخرى بعيدة في أقصى البلاد، عبر مقدمة أخرى مختلفة، إلا أنه اخفق،.. إلى أن ظنّ أن تلفونه عاجز أو مصاب بعلّة ما، فخطر له أن يتصل من تلفون آخر.. ووقع اختياره على تلفوني. تجاهلت كلامه فسألني هذه المرة:
-هل يمكنني أن أتصل من تلفونك؟
تابعت صمتي، وأنا أفكر في كل ذاك الّلف والدوران لطلب إجراء مكالمة من تلفوني المنهك. لا أنكر أنني استخففت دم سائلي للحظة واعتبرت طريقته.. واحدة من الطرق التي اتبعها الاجداد، عندما كانوا يلفون ويدورون مسافات طويلة.. اطول من تلك المعتادة لطلب بسيط، لا تتسرعوا.. سائلي لم يكن شيخًا مُسنًا، وإن كان متأثرًا بشيوخ حارته، خاصة بأبيه الوجيه البارز في البلدة كلها.. وليس في حارته وحسب. أعجبني الموقف فقرّرت أن استرسل في تفاصيله إلى أن يخرج الملل اللطيف فيغادر غرفتي الخاملة إلى لا رجعة.
تجاهلت كل ما خطر في بالي آنفًا وسألته:
-لماذا تريد أن تتصل من تلفوني؟
بدا أنه اندمج في الموقف وقرّر التجاوب معه.. بالأحرى معي. قال:
-وهل يُطلب مني أن احكي قصة طويلة.. كي أتمكّن من إجراء اتصال تلفوني بالنسبة إليك عاديّ.. وبالنسبة إليّ مهم؟
تجاهلت كلماته. قلت:
-ولِمَ لا؟
رد بنفاذ صبر:
-الحديث يدور عن مكالمة بسيطة. أؤكد لك.
-ومن يضمن لي أنها بسيطة. رددت عليه وظل ابتسامة يداعب شفتي.
-أنا أضمن لك.. هل تتوقع أن يكون كائن آخر في هذه الغرفة سواك؟
أرسلت نظرة متفحصة إلى أنحاء غرفتي وتذكرت أنه عندما تسلّل إليها قبل قليل.. وجّه كلامه إلى ناحية أخرى غير تلك التي جلست فيها قُبالته. قلت له:
-ومَن أدراني إذا كان هناك كائن آخر في الغرفة.
قال بانفعال:
-لقد تحدّثت معك.. طوال الوقت.
عندها أردت أن انهي المكالمة، إلا أنه عزّ علي أن أفعل فقد استمرأت اللعبة. قلت:
-أنت لم تتحدّث إلي.
-بل تحدثت.. لا تنكر. أكّد.
-لو كنت تحدثت إلي.. ما قلت لك ما قلته من كلام.
أصابته حالة من النزق الخارق للعادة:
-لا يوجد سوانا في هذه الغرفة.. ماذا اصابك؟
-لم يصبني شيء. يبدو أنك أنت مَن أصيب.. رددت بنوع لطيف من العنف.
عندها انفجر بالون غضبه المنفوخ أكثر مما يحتمل.. وفوق طاقته. فهتف بي:
-هل ستعيرني تلفونك.. لإجراء مكالمتي التاريخية؟
تحسّست تلفوني في جيبي.. كان قد فرغ من شحنته الكهربائية وانطفأ.. قبل دخولي إلى غرفة مكتبي في صباح ذلك اليوم. قلت له بحزم:
-لا لن أعيرك إياه. وتوقعت أن يسألني عن السبب. إلا أنه لم يفعل. وشكرني وهو يرسل نظره إلى ناحية أخرى في الغرفة غير تلك التي جلست فيها.. وشيّعته بابتسامة غامضة.. ترى.. ماذا كان سيخسر لو سألني عن السبب.. او لم يكن يربح؟
القصة الرابعة
الدُبّةُ الشقيةُ
توقفت قبالة الفاترينا الزجاجية تبحث عن شيء يليق بالمناسبة. ترى ماذا ستشتري له؟ ألم تعرف بطرائقها الجهنمية.. ذات التجارب الوفيرة الغنية أن عيد ميلاده الخامس والاربعين يصادف اليوم التاسع من أيلول؟ انها الآن تتأمل بنظراتها ذات التاريخ العريق في والتمعن، تتأمل في المعروضات كلها، ترى بأي هدية يمكنها ان تعبّر له عن حبها العابر للزمن؟ المتمتع بشباب لا يشيخ.. شباب ابدي.. لا يؤثر فيه لا مضي الايام ولا تعاقب السنين ولا حتى تتالي الاعوام. ترسل نظرة متفحصة أخرى إلى الفاترينا.. هذه المرة يلفتها قوامها الاهيف المتناسق، انها ما زالت جميلة. تسوي بنطالها التايبس على قدّها الممشوق. وتميّل طاقية القش على راسها. آه هكذا أنت سيدة الدنيا.
تبتسم رغم شعورها المراوغ بالتعب. تقنع نفسها بأن عليها أن ترتاح قليلًا ليس لأنها امرأة وحيدة ومُسنّة وتحتاج إلى راحة من نوع ما، ولا لأنها مريضة، فهي لا تعترف بهذا كله. وهي ما زالت قادرة على الحياة وتعرف كيف تعيشها. تتوجّه نحو مقعد قريب في الشارع العام. مبتعدة عن فاترينا الهدايا، تسترخي قليلًا على المقعد إلا أن قوة ما تدفعها لأن تعود إلى هناك.. إلى الفاترينا.. هذه المرة لن تقف مكتوفة اليدين، وإنما هي ستدخل إلى الحانوت.. ستطلب من صاحبه أن يبحث لها عن أجمل دُبة صنعتها يد بشرية مبدعة. هذه المرة لن تسأله كعادتها كم يكلّفها ثمنها.. بل إنها ستبتسم مشجعة صاحب المحل على أن يطلب ما يريده من ثمن لدبته حلالًا زلالًا عليه الربح الصافي.
تدخل إلى المحل.. تتناول من صاحبه أجمل دبّة خاطتها يد بشرية، ترسل نحوها ابتسامة اقوى من السنين، تهز رأسها علامة الاعجاب والموافقة. صاحب المحل يبادر إلى لف الدبة المباركة بأجمل ما لديه من ورق مقوّى وبكل ما تعلمه واتقنه من مهارة.. ويقدم لها دبته على طبق من ابتسامة.. تتناول الدبة وتخرج من المحل.
لقد تعمّدت منذ ثلاثة ايام.. بعد معرفتها يوم ميلاد حبيب القلب الشاب المهيوب.. أن تصطنع عدم المعرفة وأن تتغيّب عن شقتها.. لتجعل من مفاجأتها أحلى مفاجأة غرامية تراها عين بشر. تحتضن دبّتَها الغالية، وتمضي في طريقها الطويل.. تمضي ويمضي حلمها المتجدد معها وإلى جانبها. إنها تود الآن لو تتحول إلى فراشة لتطير إلى هناك.. إلى غرفتها وسريرها المستدير لتحط على جانبه الاجمل والاقرب ولترسل إليه نظرة اتقنت ارسالها منذ شبابها الاول حتى هذه السنوات الخفيفة الزاحفة دون ارادة منها. ستقدّم إليه دبتها ممشوقة القوام. وسوف تطلب منه أن يزيل غلافها الثمين.. ليراها هي.. وليس غيرها في تلك الدبة خفيفة الدم.. ألم يردّد امامها اكثر من مرة انه يتمنّى لو انها تنجب له دبة تشبهها؟ ليأتنس بها في لحظات غيابها عنه؟ في هذا العمر هي لا تريد أن تنجب دبتها.. الكتكوتة الصغيرة.. خفيفة الدم، لذا ستقدّمها إليه على بساط من امل.. دبة رائعة تدفئ جسدَه الفوّار، أما هو فانه كعادته قبالة مفاجآتها الكثيرة له منذ تعرّفت إليه قبل نحو الستة شهور.. سيبادر إلى ضمّها ولثمها بكل ما لديه من شبق وشباب شارب ريان.
تمضي في طريقها غير عابئة بتعب أو مرض أو حتى شيخوخة. إنها تود أن تصل إليه هناك في شقتها وعلى سريرها الساحر.. بأسرع ما يمكن.. لتريه انها اجمل امرأة رأتها عيناه. وانها اكثر اخلاصًا واشدّ حبًا من تلك الشابة التي ضبطتها وهي تتبادل واياه النظرات الحافلة بالمعاني الغامضة. لا.. لا.. هو لا يمكن أن يحبّ غيرها. صحيح أن هناك فرقًا في العمر بينهما.. صحيح أنها تكبره بسنوات ليست قليلة.. إلا أنها ما زالت قادرة على التحدي وكسب معركة المنافسة. قالت لنفسها ومضت تتقافز مثل دُبة حديثة عهد بالحياة.
الطريق إلى شقتها كانت قصيرة جدًا. توقّفت قبالة باب شقتها سوّت ملابسها على جسدها الباهر وأعادت إمالة قبّعتها القشية على رأسها.. بالضبط كما ارادها حبيبها دائمًا. فتحت حقيبتها اليدوية.. تحسّست مفتاح شقتها بكل ما في العالم وفي العين من لطف ورقة.. القى المفتاح بنفسه بين أصابعها الغضة الطرية المتحدّية لكل شيخوخة ومرض. ادخلته في موقعه من اكرة الباب وفتحت الباب الخارجي رويدًا رويدًا.. مثل لص خبر أسرار مهنته وبرع فيها.. ما هذا إنها تشعر بحركة غريبة تخدش فضاء الشقة. أهي الُدبّة تريد أن تتحرّك بين يديها لتقفز إليه هناك في غرفة نومهما.. قائلة له ها انذي أتيت إليك لاحتفل بك في يوم ميلادك، أم هو شيء آخر.. لتتوقف ولتصخ السمع جيدًا.. تتسع عيناها من هول المفاجأة.. شيء ما يشعل الضوء الاحمر في مخيلتها.. لكنها تكذب نفسها لا.. لا يمكن.. تصيخ السمع أكثر فأكثر.. تلصق أذنها بواجهة باب غرفة نومها.. لتستمع إلى صوت نسائي كارثي:
-أنا خائفة... أشعر انها ستأتي..
صوت رجالي.. يشبه صوت حبيبها:
-لا تخافي.. أنا متأكد من أنها لن تأتي.
-كيف لا أخاف ونحن هنا في بيتها.. إنها حيزبون وعاشقة.. لا يمكن أن تؤمّن لاحد.. هل انت متأكد من أنها لن تأتي؟
تبعد أذنها عن واجهة الباب.. الآن تبيّن لها ما خفي عليها وما لم تشأ أن تعرفه.. الآن اكتشفت سر تلك النظرات المتواطئة بين تلك الما تتسمى وبين حبيبها. شعور بالاختناق ينتابها.. إنها تحاول أن تصرخ.. أن تضرب الباب بيدها المرهقة المتعبة.. إلا أن صوتها لا يخرج.. تشعر بانعقاد لسانها و.. تهوي قُبالة الباب الموصد.. تهوي هي ودُبتها المسكينة.. أسفًا وحسرةً..